ظاهرة الداعاة الجدد تحليل اجتماعي
هذا كتاب يمكن من الناحية العلمية أن نعده- وإن لم يكن كذلك تمامًا- دراسةً في علمِ اجتماع الدين (سوسيولوجيا الدين) بهدف فحص ظاهرة طافيةٍ على السطح، شغلت دوائرَ عدةً، وسبق الغرب إلى الانشغال بها، ومحاولة دراستها وتحليلها.
وفي التصدير الذي قدمت به هيئة التحرير المشرفة على النشر جاء النص التالي: "من هم الدعاة الجدد؟! وفيم يختلفون عن غيرهم من الدعاة الأزهريين الذين نعرفهم جميعًا؟ وما الموضوعات التي يطرحونها؟ وهل أصبح ظهورهم المطَّرد يشكِّل ظاهرةً تستحق الدراسة والتحليل؟".
هذه الأسئلة الملحَّة هي ما شغلت هذا الكتاب، وحاول أن يقدم لنا إجاباتٍ شافيةً (عنها) وأن يحدد تعريفاتٍ جامعةً لهذه الظاهرة التي طرأت على المجتمع المصري في الآونة الأخيرة، واستطاعت أن تفرض نفسها نظرًا لاطِّرادها؛ إذ إن أولئك الدعاة الجدد استغلُّوا جميع الوسائل المتاحة لنشر أفكارهم، وتمكنوا من التعامل مع أدوات الحداثة ومنجزات التكنولوجيا الحديثة، ومع نتائج العولمة على المستوى الاتصالي والمعرفي، فتوغَّلوا في الفضائيات ومواقع الإنترنت.
جاء الكتاب (ظاهرة الدعاة الجدد.. تحليل اجتماعي، الدعوة، الثروة الشهرة) للكاتب وائل لطفي الصحفي بمجلة (روز اليوسف) في أربعة فصول ومقدمتين وتصدير كما يلي:
1- تصدير قدمت به هيئة تحرير مكتبة الأسرة للكتاب (3- 4) أجملت فيه سؤالات الكتاب والهدف، وطريقة كاتبه فيه.
2- مقدمة (5- 9) بيَّن فيها عمرَ انشغالِه بموضوع الكتاب الذي يعود إلى خمس سنوات إلى الوراء (سنة 2000م) وهو يقرِّر فيها "وبدا لي أن الظاهرة كبيرة ومتشعبة وأنها تحتاج لمزيد من التأمل والدراسة، ولعل السؤال الأهم لديَّ كان عن علاقة الماضي بالمستقبل".
3- وفي المقدمة الثانية التي حملت عنوان (تفاصيل في مشهد واحد) أجمل وائل لطفي رؤيتَه للظاهرة، وعرضَها في لوحة بانوراميةٍ شاملةٍ، سيتكفل بتفصيلها في بقية فصول الكتاب الأربعة، وهو يقرِّر أن الاقتصاد يبدو حاضرًا وبقوة- في تحليلها- وإن كان لا يخلو المشهد من دلالاتٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ أخرى.
أما فصول الكتاب الأربعة فهي:
الأول: من هم الدعاة الجدد؟ (17- 106): فتناول فيه النشأة التاريخية، بدايةً من ياسين رشدي ثم عمر عبد الكافي، ثم أسلمة نادي الصيد، ثم التحدي وقوى السوق، ثم البروستانية والإخوان، متطرقًا بعد ذلك إلى الموجة الثانية، فيتحدث عن الثروة مقابل الدعوة ومن الطب إلى تاريخ الأندلس، والمنافسين ممثلاً بخالد الجندي الذي افتتح باب الفتوى مقابل الأجر، مع التطرق لعملية الاستيراد قاصدًا بها الحبيب الجفري الصوفي من طبقة الخمسة النجوم، متأملاً العلاقة بين الصوفي والسياسي، ونخبة النخبة، ثم يحاول تفسير الرحيل المفاجئ الموسوم بالرحيل الودي.
الثاني: الجيل الثالث (107- 136) وقد رصد فيه ظاهرة الصالون الإسلامي الذي يمثِّل- مع سذاجة الطرح وسطحية المسوِّغ- الهروبَ من رائحة الأقدام، معالجًا تحول الدعاة إلى نجوم وشيوخ ضد التظاهر، متسائلاً عن تدين الطبقة المترفة في مصر التي سماها (الهاي كلاس High Class).
الثالث: داعيات ضد التهميش (137- 174): وفي محاولةٍ يرى فيها وائل لطفي فعل الداعيات الجديدات- وإن لم يصرح- ثمرةً من ثمار قاسم أمين البعيدة، عندما يقرر أن ذلك أمرٌ يعبِّر عن الخروج من الهامش، متطرقًا إلى الانتقال من التسوق إلى الدعوة، ومتحدثًا عن الخروج من الأزمة، وراصدًا توسعَ نشر الدعوة، راصدًا مشهدَ الدعوة في أندية الروتاري (مظهر المد الماسوني) مرتكنًا إلى أن الخوف من الموت هو أحد الركائز الكبرى التي تتكفَّل بتفسير ظاهرة تديُّن نساء المجتمع الراقي في مصر.
الرابع: الإعجازيون أو الطب البديل والدعوة البديلة (175- 213): فيتناول الانتصار المجاني، وهزيمة الغرب بالإعجاز، في مشهد لا يخلو من سخرية، منتهيًا إلى الحديث عن الحجامة باعتبارها سُنَّةً نبويةً، وموضةً نسائيةً!!
هذا هو مجمل الصورة التي يعرض لها الكاتب الصحفي وائل لطفي، وأنا مضطر هنا لهذا الوصف لأول مرة، معضدًا دعوته لممارسة فحص الظاهرة من جديد؛ لأن العرض الصحفي المصبوغ بقدر من دعوى التحليل (المرتكز على خيط من الرؤى الماركسية، وآثار العولمة، والسوق الحر، وربما أمراض النفس لدى هؤلاء الدعاة) لا يصلح إلا أن يعطي صورةً لوجه الظاهرة، لكنها صورةُ وجهٍ تذكر بهجَّام السينما المصرية الذي يُخفي وجهه، ولا يُظهِر فيه سوى عينين مرتعشتين، ربما لا تُبديان ملامحًا إلا لضابط الشرطة الذكي!
1- الدعاة الجدد.. الماهية والنشأة
مال وائل لطفي- في لغةٍ مناسبةٍ للجماهير- إلى تعريفٍ زعم أنه يبدو وكأنه تعريف جامع مانع، ولا أظنه يقصد الدلالة الاصطلاحية المنطقية لِمَا قال؛ لأن الارتكاز مثلاً على أنهم ليسوا أولئك الدعاة الأزهريين الذين يلتزمون بالزي التقليدي، قاصدًا به الجلباب أو العمة والكاكولا، لا ينطبق مثلاً على نموذج الحبيب علي الجفري، مما ينال من دعوى الجامع المانع هذه التي أطلقها.
يقول وائل لطفي محددًا ملامح صورة الداعية الجديد فيما يلي:
أ- هو الشخص الذي تلقَّى تعليمه خارج المؤسسة الدينية الرسمية الأزهر، مع أنه رصد أنهم جميعًا تلقَّوا تعليمًا توافرَ فيه قدرٌ من الرسمية عندما حصلوا على إجازاتِ وشهاداتِ معاهد إعداد الدعاة التابعة للأوقاف، وعندما قرَّر أن بعضهم سجَّل للدراسة في بعض الأكاديميات المعتمدة من الأزهر، ومع الاعتراف كذلك بأن واحدًا مثل خالد الجندي هو ابن للمؤسسة الدينية الرسمية الأزهر.
ب- هو الشخص المهني الناجح الذي له عملٌ مستقل عن كونه داعيةً، وهذا صحيح في حالات ياسين رشدي، وعمر عبد الكافي، وعمرو خالد في أول أمره، وراغِب السرجاني، وصفوت حجازي، وهو غير صحيح في حالة خالد الجندي مثلاً.
ج- هو الشخص الذي يرتدي الملابس الأوروبية، وفضلاً عن وصف الملابس بالأوروبية أو غير الأوروبية يجدر بالذكر تأمُّل أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لبس الثياب غير العربية، عندما قبل (القباطي)- وهي ثياب مصرية- والبرود اليمنية المحبَّرة، كما أن أحدًا من هؤلاء- وهو الحبيب علي- كان حالةً شاذةً إذا طبَّقنا هذا.
د- هو الشخص الذي يقدم خطابًا بسيطًا يربط الدين بالحياة أو المشاكل الاجتماعية، وأنا لا أستطيع أن أزعم أن الدعاة التقليديين كانوا بمعزلٍ عن ربط الدين بمشكلات الحياة الاجتماعية.
هـ- جمهور هؤلاء الدعاة من الشباب والنساء الذين ينتمون للشرائح الاجتماعية الأعلى، وهو معيار خارجي لا يمكن القول عنه بأن هذا الجمهور كان مختفيًا في ظل سيطرة الدعاة التقليديين.
على أية حالٍ هذه هي السمات الأساسية التي تشكل عمودَ الصورة لما يُسمى بظاهرة الدعاة الجدد.
ومن ياسين رشدي الذي يعزو الفضل إلى الإعلام الرسمي والمؤسسة السياسية الرسمية (النظام) في ظهوره.. إلى عمر عبد الكافي وعمرو خالد اللذين يُعزى إلى نادي الصيد السبب في ظهورهما يدخل وائل لطفي في التعليق على مسوِّغات ظهورهم جميعًا، يقول المؤلف- في سياق لا ينقصه التناقض- إن ظهور عمرو خالد- باعتباره الأشهر في قائمة الدعاة الجدد- دليلٌ على إخفاق الإخوان المسلمين في اجتذاب واستقطاب الجماهير الراغبة في التدين، مع أنه يقرر- في غير موضع من كتابه- أن عمرو خالد وغيره من الدعاة الجدد أبناء لجماعة الإخوان، ومن إنتاجها، ويحملون الصكوك القوية الدالة على عمق تأثيرها فيهم.
هذا جانب مهم في رصيد تناقض وائل لطفي، ثم هل لدى وائل لطفي إحصاءٌ يبيِّن به عجزَ الجماعة على هذا الاستقطاب، مع أن الظاهر أن المد الإخواني منغمس، ورصد ما يسمى بإخوانِ قسم الطلبة في الجامعات والنقابات في تنامٍ مطردٍ وزيادةٍ عكسَها حجم الاعتقالات التي قام بها النظام بعد مظاهرات الإصلاح الشهيرة!!
2- الموجة الثانية (تداخل المصالح بين الدعاة والرعاة والجمهور)
في جملةٍ موجزةٍ وخاطفةٍ وردَ تعبير وائل لطفي في إجماله تفاصيل الظاهرة في مشهد واحد، قرر أن الاقتصاد يبقى حاضرًا- وبقوة- لدى كل أطراف اللعبة.. الدعاة والجمهور، وهو الخيط الذي ينبغي أن يُتوقَّف بإزائه كثيرًا؛ إذ لا يصح- بحالٍ- النظر إلى الدعوة والتبشير بمراد الله وإرادة هداية الجماهير والالتزام بالتبليغ عن الرسول- صلى الله عليه وسلم- مجرد لعبة، يوضح أن نفرًا يمارسها مستغلاًّ الحاجات الضرورية للمجتمع والأفراد.
فلا يصح طرد الباب على وتيرة واحدة، واغتيال تاريخٍ طويلٍ يأمر بإيصال كلمة الله تعالى، وإلا فنحن مضطرون- وفق تحليل وائل لطفي- أن نرى في فتوحات المسلمين سياحةَ شعبٍ ظلَّ معصوبَ العينين على مشهد الصفرة في الصحراء، وظل طاويَ البطن إلا من تمراتٍ مشفوعاتٍ بمزق ألبانٍ من إبلٍ عجافٍ، أو ظلٍّ ملتهبَ الكبد منتهى أمانيه أن يخرج من طلب شربة الماء المستقرة بعجينة جبل بردتها رياح الصبا إلى العبِّ من أنهار الأمم المجاورة!! أو هكذا كان.
سمات جديدة
يقرر وائل لطفي أنه مضطر لإهمال مفهوم الجيل الزمني نظرًا لسرعة تطور هذه الظاهرة، وهو يرى في ظهور هذا الجيل الثاني إثباتًا لصحة مجموعةٍ من الافتراضات المهمة التي سبق أن قرَّرها في سمات أفراد الدعاة الجدد التي رصدها في تعريفه، وها هي ذي تتأكد مع بزوغ نجم دعاة الجيل الثاني من أمثال عمرو خالد، وصفوت حجازي، وحازم أبي إسماعيل، وأكرم رضا، وأحمد عبد الله، والحبيب الجفري.
ويقرر أن الدعاة الجدد يُعيدون تقديمَ بضاعةِ السلف القديمة في عبواتٍ حديثةٍ، وكأن المطلوب من هؤلاء الدعاة أن يختلقوا مشكلاتٍ جديدةً لا ظهورَ لها؛ حتى يقال إنهم مبتكرون.
وهل مطالب الإنسان الجوهرية الضرورية اختلفت من زمان إلى زمان؟! حاجة الإنسان إلى الطعام واحدة منذ خُلِق، الذي يختلف هو اللون وطرق الطعم والتذوق والاكتساب!!
وإذا كان الدعاة الجدد بدَوا في كتاب وائل لطفي- في فريقٍ منهم- حريصين على الثروة وانتصارًا لمفهوم الغني الصالح، فليس ذلك تحوُّلاً أو انقلابًا.. كل ما هناك أن ثمة إعادة طرح يُعيد التوازنَ لخطابٍ ظلَّ يعزف على وتر الصبر على شظف الحياة في الخطاب التقليدي كما يسميه المؤلف، ونحن هنا فقط نشير إلى أن واحدًا من ألمع أصوات الدعاة التقليديين بمفهوم وائل لطفي هو الراحل الكريم الشيخ محمد الغزالي كان دائم الحض والتذكير بنعمة الثراء الموظَّف لخدمة الدين، مذكِّرًا بقيمة المال الصالح في يد العبد الصالح، في مفهوم نصِّ حديثٍ شريف.
ولماذا ننقم على دعاة التقطوا خيطًا طالما أعلَى من قيمته القرآن الكريم في كريم ما شرعه من معاملات؟ أوليس عتق الرقبة وفك الأسير وإطعام الطعام على حبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا من أقرب القربات إلى الله في الخطاب القرآني، بعيدًا عن وصف التقليدية والتجديدية؟!
3- هل الإسلام دين ذكوري!!
هذا سؤال أردنا به الاستنكار من صنيع كتاب (ظاهرة الدعاة الجدد) الذي رأى في ممارسة الداعيات السيدات للدعوة القصدَ منه لفت الأنظار إلى أن عائشة- رضي الله عنها- كانت أشهرَ نساء الصحابة روايةً عنه- صلى الله عليه وسلم- وأن أم سلمة واحدة ضمن صحابة الحديبيين من فتنة ماحقةٍ ربما كانت سببًا في مشكلات عصيبة، وأذكر أن الذهبي روى أنه لم يذكر أن امرأةً اتهمت بالوضع أو الكذب على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومن هنا فإن تفسير بزوغ نجم داعيات سيدات على أنه خروج من دائرة الهامش، أو تمردًا ورفضًا لهجر الرجل وعناده وإهماله أمر ربما رفض بقوة؛ لأنه ركون إلى اتهام الظاهرة لا إلى تحليلها.
وأنا أذكر لما يذكر القارئ الكريم أن النبي خصص للنساء يومًا خاصًّا بهن للوعظ والفتوى، وذلك ثابت مروي عنه، كما أنه كان كثيرًا ما يوكل لعائشة بيانَ ما تريده النساء، معبرًا عن رفضه السكوت تذرعًا بالحياء، وكثيرًا ما تذاكرنا فتاوى نسائيةً وصلت إلى حدِّ تعليم المرأة كيف تتطهر مما يصيبها من دم الحيض أو غيره!
استنكار
4- الإعجازيون
وفي إطار عرض الظاهرة نفسها يلمس وائل لطفي أن وجه الدعوة الجديدة المتمثلة في الحديث عن الإعجاز العلمي كامنٌ في ذلك الإحساس بالنقص والدونية والعجز في مواجهة الآخر الغربي يقول: "وأعتقد أن لذلك الشيوع أسبابًا عامةً تنطبق على المجتمع كآلةٍ وأسبابٍ خاصةٍ تجعل الفكرةَ أكثرَ رواجًا له لدى النساء في الصالونات المرفهة، وعلى المستوى الأعمق سنجد أن الفكرةَ ذات علاقةٍ وثيقةٍ بالعلاقة الجدلية مع الغرب من الإحساس بالعداء والنقص الذي ينتاب المسلمين الذين يحنون للماضي، بالإضافة إلى فكرة تسويق الدين وتديين التسويق، والفكرة المحور التي يرى أنها قادرة على تفسير الظاهرة.
وأنا أحسب أن التذكير بكتاب مالك بن نبى سنة 1973م المفكر الجزائري المهندس (تعليمًا) والذي تُوفي قبل ظهور أو الإرهاص بظهور ظاهرةٍ الدعاة الجدد، وهو كتاب الظاهرة القرآنية الذي دعا فيه إلى النظر إلى إعجاز القرآن من باب الإعجاز القرآني، فضلاً عن أن تيارًا كاملاً في التفاسير القديمة حاول أن يلمس الإعجاز القرآني تاريخيًّا وعلميًّا في ظل عدم عداء أو شعورٍ بالنقص تجاه الآخر الغربي؛ لأن القوة كانت يؤمئذ في يد المسلمين لا في يد غيرهم.
كتاب وائل لطفي كتابٌ مغرٍ، يدعوك بقوةٍ لقراءته والتفاعل معه، وحسبه على حسن الظن به أنه حاول، وإن كنا على ما بثثناه في عرض الكتاب ومناقشته من ملاحظات، ونحن نرجو أن يحمل عددًا آخر من الاستدراكات هي ألصق بباب النقد منها بأي باب آخر.