المطلب الثاني:إيجابيات وسلبيات وآثار العولمة في الجانب الثقافي
أولاً:إيجابيات العولمة في الجانب الثقافي:
العولمة تحمل في طياتها كثيراً من الإنجازات التكنولوجية العلمية والثقافية، ممّا يمكن المسلمين الاستفادة منها، في نفع دينهم وشعوبهم المسلمة ومنها.
1- رواج تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وإحداث التطورات النوعية في مجال تيسير الاتصالات الثقافية والعلمية بين الشعوب، والدول، وانتشار الثقافة التقنية.
2- دور شبكات الاتصالات والإعلام الدولية(ومنها القنوات الفضائية)، وشبكة المعلومات الدولية(الإنترنت) في تغطية الأخبار العالمية والمحلية للعالم، وتكوين ثقافة لدى الأفراد والشعوب عن الأحداث العالمية، وهذا يشكل لدى المستفيد منها قدرة كبيرة لمعرفة ما يدور في الكرة الأرضية من أحداث، وقدرة كبيرة على تحليل الأحداث، وإثراء النقاش، بل والمشاركة الفعالة في الندوات العلمية واللقاءات الثقافية.
3- تمكين العلماء والدعاة المسلمين من تبليغ الرسالة الإسلامية والثقافة الإسلامية، لكافة شعوب العالم. ومن ثمّ تمكين الثقافة الإسلامية من الانفتاح على الثقافات الأخرى، بل والتأثير الإيجابي فيها.
4- تمكين المفكرين الإسلاميين- من خلال وسائل الاتصالات والإعلام الدولية- من مناقشة المذاهب الفكرية الوافدة، والتصدي للحركات الفلسفية الهدامة.
5- المساهمة في رفع الظلم عن المضطهدين علمياً في العالم الإسلامي-وذلك لما للصورة المنقولة تأثير واضح على الحكومات والأحزاب- خاصة ونحن نعاني من تغييب المفكرين والمثقفين المسلمين في عملية التنمية والبناء، وتهميش الطاقات والكفاءات الثقافية والعلمية.
6- زيادة الوعي السياسي لدى الشعوب، وزيادة قدرتها- نوعا ما- في التأثير في مجريات الأحداث.
ثانياً: سلبيات العولمة في الجانب الثقافي:
الغرب هو الذي ابتكر مفهوم العولمة، وهو الذي حدّد لها مضامينها وهويتها، ومكوناتها الفكرية والاقتصادية، وهو الذي يقود حركتها في العالم، ويروّج لهذا المفهوم. وهذا أحد أهم مصادر التوجس والخوف الذي تظهره الأمم والحضارات تجاه قضية العولمة. لأنّ الغرب لا يريد إلاّ أن يرى نفسه وحضارته في هذا العالم، ولازالت نزعة التمركز حول الذات هي التي تشكل عقليته، وإنّ تاريخ علاقاته بالأمم والحضارات كان محبطاً ومروعاً للغاية، حين أظهر سلوكاً استعمارياً متوحشاً، وحول ثقافته إلى ثقافة مهيمنة. زكي الميلاد، الكلمة: العدد (20) ـ السنة الخامسة، صيف 1998م ـ 1419هـ).
يقول أ.د. محمد السيد سليم: "يمكن الإشارة إلى الوثيقة المسماة "الإستراتيجية المشتركة للاتحاد الأوروبي في المتوسط" والتي أصدرها مؤتمر قمة الاتحاد الأوروبي في يونيو سنة 2000. وتشير الوثيقة صراحة إلى سعي الاتحاد إلى تغيير بعض القيم الدينية في الدول العربية المطلة على البحر المتوسط بحيث تتوافق مع القيم الأوروبية، ومؤخراً أيضاً تصريح رئيس البرلمان الأوروبي في المنتدى الاقتصادي الدولي في دافوس يناير 2003 بأن "مشكلة ضم أوروبا للاتحاد الأوروبي ليست مشكلة سياسية بل هي مشكلة قيم"، في إشارة واضحة لمنظومة القيم الأوروبية كمثال مهيمن يجب أن تقبله تركيا كدولة تتبنى قيم الإسلام، ويرتبط بذلك سعي بعض القوى المحافظة في الغرب -خاصة الولايات المتحدة الأمريكية- إلى استهداف الإسلام والعالم الإسلامي كعدو جديد للغرب، وافتعال صراع حضاري جديد بينهما يتمكن بموجبه الغرب من فرض قيمه الثقافية نهائيا".(الإستراتيجيات المفاهيمية للعولمة وبدائلها، موقع "
www.Islamonline.net/Arabic"على شبكة المعلومات الدولية،30/03/2003م)
وأهم سلبيات العولمة في الجانب الثقافي هي:
1- ثقافة الاختراق التي تمثلها العولمة تقوم على جملة أوهام هدفها: التطبيع مع الهيمنة وتكريس الاستتباع الحضاري لأمريكا، ومع التطبيع مع الهيمنة والاستسلام لعملية الاستتباع الحضاري يأتي فقدان الشعور بالانتماء لوطن أو أمة أو دولة، وبالتالي إفراغ الهوية الثقافية من كل محتوى.(الجابري:مجلة المستقبل العربي، العدد 228، 2/1998م).
2- التقليل من قيمة الثقافات المختلفة وفرض هيمنة ثقافة واحدة، ألا وهي ثقافة القوى المالكة لمراكز توجيه آليات العولمة، وهي الثقافة الأمريكية في الوقت الحاضر.
3- تفتيت الوحدة العائلية التي هي أساس الوحدات البشرية.
4- إشاعة الذوق الغربي في الاستهلاك وفي ممارسة السلوك الاجتماعي مع الآخرين.
5- نشر الثقافة اللادينية وفرض الركض-وغالبا بلا وعي- خلف الموضات الاجتماعية الفجّة.
6-حرمان الشعوب المتخلفة من اللحاق بركب التقدم، نظراً لتفشي الأمية فيها والعولمة تقوم على تقنية عالية لا تملكها الكثير من الدول والمجتمعات في الدول النامية والمتخلفة.
تقوم العولمة في الجانب الثقافي علي انتشار المعلومات، وسهولة حركتها، وزيادة معدلات التشابه بين الجماعات والمجتمعات، أي تقوم علي إيجاد ثقافة عالمية، وعولمة الاتصالات، عن طريق البث التليفزيوني عبر الأقمار الصناعية، وبصورة أكثر عمقا خلال شبكة الإنترنت التي تربط البشر بكل أنحاء المعمورة. كما تعني العولمة الثقافية توحيد القيم وخاصة حول المرأة والأسرة، باختصار تركز العولمة الثقافية علي مفهوم الشمولية ثقافة بلا حدود، وآلة ذلك الإعلان والتقنيات.( الفاوي: صحيفة الأهرام 2001م)
ولعلّ من أخطر أهداف العولمة ما يعرف بالعولمة الثقافية فهي تتجاوز الحدود التي أقامتها الشعوب لتحمي كيان وجودها، وما له من خصائص تاريخية وقومية وسياسية ودينية، ولتحمي ثرواتها الطبيعية والبشرية وتراثها الفكري الثقافي، حتى تضمن لنفسها البقاء والاستمرار والقدرة على التنمية ومن ثمّ الحصول على دور مؤثر في المجتمع الدولي. فالعولمة الثقافية تقوم على تسييد الثقافة الرأسمالية لتصبح الثقافة العليا، كما أنها ترسم حدوداً أخرى مختلفة عن الحدود الوطنية مستخدمة في ذلك شبكات الهيمنة العالمية على الاقتصاد والأذواق والثقافة.هذه الحدود هي:"حدود الفضاء (السبرنيتي) والذي هو بحق وطن جديد لا ينتمي لا إلى الجغرافيا ولا إلى التاريخ، هو وطن بدون حدود، بدون ذاكرة، إنّه وطن تبنيه شبكات الاتصال المعلوماتية الإلكترونية ".(الجابري:1997م، ص147- 148).
إنّ العولمة لا تكتفي بتسييد ثقافة ما، بل تنفي الثقافة من حيث المبدأ، وذلك لأنّ الثقافة التي يجري تسييدها تعبر عن عداء شديد لأي صورة من صور التميز، إنّ الثقافة الغربية تريد من العالم أجمع أن يعتمد المعايير المادية النفعية الغربية، كأساس لتطوره، وكقيمة اجتماعية وأخلاقية وبهذا فإنّ ما تبقى يجب أن يسقط، وما تبقى هنا هو"ليست خصوصية قومية بل مفهوم الخصوصية نفسه وليس تاريخا بعينه بل فكرة التاريخ، وليس هوية بعينها وإنما كل الهويات، وليس منظومة قيمية بل فكرة القيمة وليس نوعا بشريا، وإنّما فكرة الإنسان المطلق نفسه".(أمين:مجلة المستقبل العربي العدد 60، ص67، العدد 60، المسيري:1997م، ص 100)
يقول العالم الأمريكي المعروف ناعوم تشومسكي: "إنّ العولمة الثقافية ليست سوى نقلة نوعية في تاريخ الإعلام، تعزز سيطرة المركز الأمريكي على الأطراف، أي على العالم كله".(شومان:مصدر سابق، ص125)
يقول عبد الإله بلقيزر: "العولمة كما يدعي روادها هي انتقال من مرحلة الثقافة الوطنية إلى ثقافة عليا جديدة "عالمية"، وهي في حقيقتها اغتصاب ثقافي وعدوان رمزي على سائر الثقافات الأخرى، وهي اختراق تقني يستخدم وسائل النقل والاتصال لهدر سيادة الثقافات الأخرى للشعوب، وفرض الثقافة الغربية".( مجلة المجمع العربي للمحاسبين القانونيين، عدد 11، 1999م، ص 38.)
وقد دعا البروفيسور الياباني "يوشيهارا كونيو" في محاضرة ألقاها في المعهد الوطني للإدارة العامة- بالعاصمة الماليزية كوالالامبور يوم الاثنين 27/8/2001 م- الدول النامية إلى وضع خطة إستراتيجية لمواجهة مخاطر العولمة اللغوية والثقافية. من أجل المحافظة على لغتها المحلية والقومية وإبقائها كوسيلة للتعلم والتخاطب، وأنه ينبغي على الدول النامية تقوية ثقافتها الوطنية بمحتوياتها من دين وعادات، وغيرها لتعزيز الهوية الذاتية لكل بلد، والحفاظ على روح الفخر بالثقافة الوطنية بين السكان في مواجهة الثقافة الغربية الدخيلة.( جاسم: موقع "
www.Islamonline.net/Arabi "إسلام على الطريق"على شبكة المعلومات الدولية،2001).
ويقول د.عبد الفتاح أحمد الفاوي:" ليست العولمة انتقالاً من ظاهرة الثقافة الوطنية والقومية إلي ثقافة عليا جديدة هي الثقافة العالمية، بل إنّها فعل اغتصاب ثقافي، وعدواني رمزي علي سائر الثقافات، خاصة ثقافتنا العربية والإسلامية".(الفاوي:الأهرام، 2001م)
ودعا دافيد روشكويف (أستاذ العلاقات الدولية بجامعة كولومبيا والمسئول السابق في حكومة الرئيس الأمريكي الأسبق كلينتون) الولايات المتحدة إلى استغلال الثورة المعلوماتية الكونية للترويج للثقافة والقيم الأمريكية على حساب الثقافات الأخرى، لأنّ الأمريكان أكثر الأمم عدلاً وتسامحاً وهم النموذج الأفضل للمستقبل، والأقدر على قيادة العالم.(المبروك:1999م، ص13-14)
ويقول شتراوس هوب في كتابه(توازن الغد):"إنّ المهمة الأساسية لأمريكا توحيد الكرة الأرضية تحت قيادتها، واستمرار هيمنة الثقافة الغربية، وهذه المهمة التي لا بد من إنجازها بسرعة في مواجهة نمور آسيا وأيّ قوى أخرى لا تنتمي للحضارة الغربية".( لمفهوم العولمة الصوراني، 2000م، ص 80). إذاً من الأهداف الثقافية للعولمة: الترويج لفلسفة النظام الغربي الرأسمالي النفعي البرجماتي وفرض الثقافة الغربية الوافدة وجعلها في محل الصدارة والهيمنة في العالم وقهر الهوية الثقافية للأمم والشعوب الأخرى، على أن تظل الثقافات الأخرى محدودةً في نطاق السلوك الفردي لا تتعداه، فالدساتير والنظم والقوانين والقيم الأخلاقية يجب أن تستمد من الفلسفة المادية النفعية، ومن ثقافة الرجل الأبيض العلمانية، المناهضة للعقائد والشرائع السماوية.(المبروك: مصدر سابق ص95-96، حجازي:مصدر سابق، ص 10-11)
يقول المفكر الإسلامي الألماني الدكتور مراد هوفمان:العولمة تتبنى الوسائل المريبة الزاحفة لتمزيق الأمة الإسلامية، والطغيان على قيمها السامية بالعمل على شيوع القيم المتدنية التي تصاحب بالغزو الفكري، والاستهلاكي مثل:طغيان الاستهلاك والنهم المادي، وشيوع العنف والجنس، والمادية، والفردية، والافتتان بالثروة والسعي إليها بأي سبيل والتخلي عن القيم.
ويقول الباحث د. محمد أمخرون: "ومن المؤكّد أنّ المستهدف بهذا الغزو الثقافي هم المسلمون. وذلك لما يلي:-
أ – ما تملكه بلادهم من مواد أولية هائلة يأتي على رأسها النفط والغاز وثروات طبيعية أخرى.
ب – ما ثبت لهم عبر مراكزهم وبحوثهم وجامعاتهم ومستشرقيهم من أنّ هذه الأمة مستعصية على الهزيمة، إذا حافظت على هويتها الإسلامية ومن ثم فالطريق الوحيد لإخضاعها يتمثل في القضاء على تفرد شخصيتها وإلغاء دينها الذي يبعث فيها الثورة والرفض لكل أشكال الاحتلال والسيطرة ".(مجلة البيان، عدد 145، 1420هـ، 1999م ص126-127).
ج – الحفاظ على أمن الكيان الصهيوني في قلب العالم الإسلامي، وهو من أهم أهداف العولـمة في بلاد العرب والمسلمين.
د– الحضارة الإسلامية بعقيدتها وشريعتها ونظام أخلاقها وإنجازاتها التاريخية هي النقيض الوحيد الشامل لفلسفة العولـمة ودينها وأنظمتها وقيمها الهابطة في هذه الدنيا التي نعيش فيها.
ثالثا:آثار العولمة الثقافية في الهوية الثقافية:-
يقول الباحث محمد آدم:"ولكن العولمة بالمفهوم المعاصر (الأمركة) ليست مجرد سيطرة وهيمنة والتحكم بالسياسة والاقتصاد فحسب، ولكنها أبعد من ذلك بكثير، فهي تمتد لتطال ثقافات الشعوب والهوية القومية الوطنية، وترمي إلى تعميم أنموذج من السلوك وأنماط أو منظومات من القيم وطرائق العيش والتدبير، وهي بالتالي تحمل ثقافة (غربية أمريكية) تغزو بها ثقافات مجتمعات أخرى، ولا يخلو ذلك من توجه استعماري جديد يتركز على احتلال العقل والتفكير وجعله يعمل وفق أهداف الغازي ومصالحه. وأكّد ذلك الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش حين قال في مناخ الاحتفال بالنصر في حرب الخليج الثانية:إنّ القرن القادم سيشهد انتشار القيم الأمريكية وأنماط العيش والسلوك الأمريكي".(أدم: مجلة النبأ، العـدد 42، 200م).
إنّ الثقافات الوافدة تشكل خطراً على الهوية العربية والإسلامية، وبخاصة في ظل ضعف التحصينات الداخلية، والانفتاح بلا وعي على العالم الغربي، وخصوصاً الجانب الإعلامي.
ومن آثار العولمة في الهوية الثقافية:
* شيوع الثقافة الاستهلاكية -لأنّ العولمة تمجِّد ثقافة الاستهلاك- التي استخدمت كأداة قوية فاعلة في إطلاق شهوات الاستهلاك إلى أقصى عنان ومن ثمَّ تشويه التقاليد والأعراف السائدة في العالم الإسلامي.
* تغريب الإنسان المسلم وعزله عن قضاياه وهمومه الإسلامية، وإدخال الضعف لديه، والتشكيك في جميع قناعته الدينية، وهويته الثقافية.( بهاء الدين:2003م، ص 62-63).
* اختفاء القيم النبيلة، ليصبح الربح هو القيمة المطاقة، وعندما يكون الدافع دوماً هو الربح كما تروج العولمة، فإن قيمة الإشباع المادي هي التي ستحدد السلوك، وسيصبح العالم غابة يركض فيها الإنسان بحثاً عمّا يشبع فيها حاجاته المادية، وإلغاء الإبداع، ومن المعلوم أنّ والإبداع كان دوما شرطا من شروط التطور الإنساني، وإحدى أهم شروطه هو وجود الدافع.(المشني: مجلة أفاق، مجلة فصلية، موقعها على "الإنترنت").
ويذكر أحد الغربيين أسلوب صناعة الفكر الغربي لدى الطلبة الشرقيين فيقول:" كنّا نحضر أولاد الأشراف والأثرياء والسادة من أفريقيا وآسيا، ونطوف بهم لبضعة أيام في أمستردام ولندن، فتتغير مناهجهم، ويلتقطون بعض أنماط العلاقات الاجتماعية، فيتعلمون لغتنا، وأسلوب رقصنا وركوب عرباتنا، ثمّ نعلمهم أسلوب الحياة الغربية، ثمّ نضع في أعماق قلوبهم الرغبة في أوروبا، ثمّ نرسلهم إلى بلادهم، وأيّ بلاد؟ بلاد كانت أبوابها مغلقة دائماً في وجوهنا، ولم نكن نجد منفذاً إليها، كنّا بالنسبة إليهم رجساً ونجساً.ولكن منذ أن صنعنا المفكرين ثمّ أرسلناهم إلى بلادهم، كنّا نصيح في لندن، وأمستردام، وننادي بالإخاء البشري، وكانوا يردّدون ما نقوله، كنّا حين نصمت يصمتون؛ لأننا واثقون أنّهم لا يملكون كلمةً واحدة يقولونها غير ما وضعنا في أفواهم.(العمر:مقال، موقع المسلم على"الإنترنت")
* إشاعة ما يسمى بأدب الجنس وثقافة العنف التي من شأنها تنشئة أجيال كاملة تؤمن بالعنف كأسلوب للحياة وكظاهرة عادية وطبيعية.(ظاهر: مجلة الفكر العربي المعاصر العدد 100-101، 1993م، بهاء الدين:مصدر سابق، ص36) وما يترتّب على ذلك من انتشار الرذيلة والجريمة والعنف في المجتمعات الإسلامية، وقتل أوقات الشباب بتضييعها في توافه الأمور وبما يعود عليه بالضرر البالغ في دينه وأخلاقه وسلوكه وحركته في الحياة، وتساهم في هذا الجانب شبكات الاتصال الحديثة والقنوات الفضائية وبرامج الإعلانات والدعايات للسلع الغربية وهي مصحوبة بالثقافة الجنسية الغربية التي تخدش الحياء والمروءة والكرامة الإنسانية ولقد أثبتت الدراسات الحديثة خطورة القنوات الفضائية-بما تبثه من أفلام ومسلسلات جنسية فاضحة-على النظام التعليمي والحياة الثقافية والعلاقات الاجتماعية ونمط الحياة الاقتصادية في العالم الإسلامي.(أمين:مصدر سابق، ص 126-128)
وفي دراسة أعدّها مركز دراسات المرأة والطفل بالقاهرة على1472: فتاه، وسيدة مصرية..تبين أنّ الأفلام التي يشاهدنها:85% أفلاماً جنس، 75% بها مشاهد جنسية، 85% أفلام عنف وحروب، 23% أفلام فضاء، 68% أفلاماً عاطفية قديمة وحديثة، 21% أفلاما أخرى، 6% فقط من عينة البحث يشاهدن نشرات الأخبار وبرامج ثقافية وترفيهية، ولم يذكرنّ الأفلام العلمية، لأنها لم تنل منهن أي اهتمام يذكر.( صحيفة أكتوبر المصرية، عدد، 1997م )
كما أثبتت الدراسات الحديثة أنّ شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت) أكبر قوة دافعة للعولمة المدوية لصناعة الجنس. ويرى معهد فوريستر للأبحاث (كيمبردج ماساشوسيتس) أنّ صناعة البورنو على شبكة المعلومات الدولية تبلغ نحو مليار دولار سنويا من حيث القيمة، وإنّها مرشحة للتعاظم. فشبكة المعلومات الدولية تزيل بضربة واحدة، أكبر عقبتين تعترضان بيع الصور والخدمات الجنسية: الخجل والجهل.فالأمر لا يحتاج أكثر من أن يلقي نظرة على "دليل الجنس في العالم"، وهو موقع على شبكة معلومات الدولية، ليجد عروضاً مفصّلة عن المواخير، ووكالات تأجير المرافقات والنوادي الليلية في مئات المدن الكبرى حول العالم. وتتيح شبكة معلومات الدولية أيضا للناس تجاوز الرقابة المحلية والحصول على صور يرغبونها من أي مكان في أرجاء المعمورة.(مهاتير محمد: 2000م)
* ومن آثار عولمة الثقافة انتشار نوعية مميزة من الثقافة المادية والمعنوية الأمريكية حيث سيطرت الثقافة الأمريكية الشعبية على أذواق البشر فأصبحت موسيقى وغناء مايكل جاكسون، وتليفزيون رامبو، وسينما دالاس هي الآليات والنماذج السائدة في مختلف أنحاء العالم وأصبحت اللغة الإنجليزية ذات اللكنة الأمريكية هي اللغة السائدة.(مجلة المستقبل العربي:العدد 229، 1998م، الفاوي:الأهرام،2001م).
*ومن آثار العولمة في طمس الهوية الثقافية للأمة الإسلامية انتشار الأزياء والمنتجات الأمريكية في كثير من الدول الإسلامية، لأنّ هذه السلع تحمل في طياتها ثقافة مغايرة تسحق ثقافات الأمم المستوردة لها وظهور اللغة الإنجليزية على واجهات المحلات والشركات، وعلى اللعب والهدايا وعلى ملابس الأطفال والشباب.
ولقد أثبتت الإحصائيات الصادرة لعام 1995م أنّ النساء في السعودية: استهلكن:538 طناً من أحمر الشفاه، 43 طنا من طلاء الأظافر، 41 من مزيلات الطلاء، 232 طناً من مسحوق تجميل العيون، 445 طناً من مواد صبغة الشعر، وقد تمّ إنفاق 1200-1500 مليون ريال سعودي على العطور. وأربعة آلاف وأربعمائة امرأة مصاريفهن خلال الصيف فقط:110 ملايين ريال فساتين الحفلات، و8 آلاف ريال متوسط كلفة الفستان وما تنفقه المرأة الواحدة على كل زينتها خلال الحفلة25 ألف ريال.
وحسب إحصائيات 1997م عن نساء دول الخليج: 799 مليون دولار أنفقت على العطور، أربعة مليون دولار على صبغات الشعر، وتمّ استهلاك 600 طن من أحمر الشفاه، و50 طناً من طلاء أظافر، و1,5 مليار دولار تنفقها المرأة الخليجية على مستحضرات التجميل.(مجلة الأسرة السعودية، عدد صفر 1420هـ).
واستهلكن:298 ألف كيلو جرام وزن مستحضرات تجميل العيون، 96 ألف كيلو جرام لتلميع الأظافر، 334 ألف كيلو جرام لطلاء الوجه، 599 ألف كيلو مستحضرات وقاية الجلد من الشمس، 4 ألف كيلو جرام مستحضرات تطرية الجلد، 401 ألف كيلو جرام مستحضرات تجعيد الشعر أو تنعيمه، 784 ألف كيلو جرام مستحضرات صبغ الشعر.(مجلة الاقتصادية السعودية:عدد 17/12/1421هـ).
قد ينبري بعض السذج من الناس فيقول: وأي خطر حقيقي يمكن أن يهدّد المسلمين إذا شاعت هذه المطاعم والأزياء والتقاليد والمنتجات الأوربية والأمريكية؟! والجواب: هو المثل الفرنسي المشهور الذي يقول: (أَخبرْني ماذا تأكل أُخبرْك مَن أنت!)؛ فالأزياء, والمطاعم، والمأكولات والمشروبات، وغيرها من المنتجات تجلب معها مفاهيم بلد المنشأ، وقيمه وعاداته ولغته، وذلك يوضح الصلة الوثيقة بين هذه المنتجات وبين انفراط الأسرة، وضعف التدين، وانتشار الكحول والمخدّرات، والجريمة المنظمة.وأيضا فإنًّ أي مطعم أو متجر من (الماركات) الغربية المشهورة يقام في بلادنا- ينهار أمامه عشرات المؤسسات الوطنية الوليدة، التي لا تملك أسباب المنافسة، ممّا يزيد من معدلات الفقر والبطالة.(الشريف: موقع صحيفة البلاغ "
www.balagh.com"، شبكة المعلومات الدولية).
ولقد ثبت أنّ الأزياء الأوربية والأمريكية قد كتبت عليها عبارات باللغة الإنجليزية، تحتوي على ألفاظ وجمل جنسية مثيرة للشهوات ومحركة للغرائز الجنسية، وأيضاً لا دينية تمس المشاعر والمقدسات والأخلاق الإسلامية وتروج للثقافة الغربية التي تقوم على الإباحية والحرية الفوضوية في مجال العلاقات بين الرجل والمرأة، ومن تلك الكلمات والعبارات المكتوبة على ملابس الأطفال والشباب:kiss me: قبلني take me:خذني- Sow: خنزير- I’m Jewish: أنا يهودي- prostitute:عاهر- Adultery: ابن الزنا- Zion: صهيوني. (المبروك وآخرون:مصدر سابق، ص136-137)
يقول زكي الميلاد:"ولسنا وحدنا في العالم العربي والإسلامي من يتظاهر بهذا الخوف، فهناك من داخل الغرب نفسه من يحذر بشدّة ويقاوم هذه العولمة، وفي مقدمة هؤلاء الفرنسيون. وأوروبا بصورة عامة أخذت تدافع عن هويتها ونموذجها المجتمعي والقيمي، في مواجهة ما تسميه بالغزو الثقافي والأمركة الثقافية، والذي سوف يعزز معه حدّة التباينات الثقافية بين أوروبا وأمريكا".(الميلاد، الكلمة: العدد 20، السنة الخامسة، 1998م)
لقد أدركت بعض الدول خطورة الآثار الثقافية للعولمة في بلدانها، ومن هذه الدول فرنسا، فهذا وزير العدل الفرنسي جاك كوبون يقول: "إنّ (الإنترنت) بالوضع الحالي شكل جديد من أشكال الاستعمار، وإذا لم نتحرك فأسلوب حياتنا في خطر، وهناك إجماع فرنسي على اتخاذ كل الإجراءات الكفيلة لحماية اللغة الفرنسية والثقافة الفرنسية من التأثير الأمريكي".( بل إن الرئيس الفرنسي جاك شيراك عارض قيام مطعم "ماكدونالدز الذي يقدم الوجبات الأمريكية، مسوغًا ذلك أن يبقى برج أيفل منفردًا بنمط العيش الفرنسي.( الحاجي:1999م، ص51.) كما قام وزير الثقافة الفرنسي بهجوم قوي على أمريكا في اجتماع اليونسكو بالمكسيك، وقال: "إني أستغرب أن تكون الدول التي علّمت الشعوب قدراً كبيراً من الحرية، ودعت إلى الثورة على الطغيان، هي التي تحاول أن تفرض ثقافة شمولية وحيدة على العالم أجمع...إن هذا شكل من أشكال الإمبريالية المالية والفكرية، لا يحتل الأراضي، ولكن يصادر الضمائر، ومناهج التفكير، واختلاف أنماط العيش".(المصدر السابق، ص50).
* فرض التوجهات الثقافية الأمريكية على المنطقة العربية والإسلامية, خاصة ما يتعلق منها بتغيير المناهج التعليمية، وإعادة النظر في الأنظمة الإعلامية في رؤيتها للغرب عموما والولايات المتحدة الأمريكية خصوصا, وهو يعني إعادة النظر في طبيعة الصراع مع الاستعمار الصهيوني في فلسطين, والانخراط في مشروع ما يسمى بالسلام, والتطبيع مع دولة الكيان الصهيوني.
قوة تأثير الثقافة الأمريكية:
ترجع قوة تأثير الثقافة الأمريكية إلى مجموعة من الأسباب منها:-
* هيمنة شركات الإعلام الأمريكية على التسويق العالمي، واعتماد اقتصاديات دول أخرى كثيرة على الاقتصاد الأمريكي.فمعظم مواد وتجهيزات الصناعة التقليدية،والإعلام الورق، الحبر،آلات الطباعة، آلات التصوير بيد الدول المصنعة،وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.
* جميع مواد وتجهيزات الاتصال الحديثة بيد المجموعة نفسها ويتحكم فيها كلياً مركز واحد للهيمنة، وجميع وسائل تجهيزات المعلومات والحاسوب، وغزو الفضاء.
يقول رئيس وزراء ماليزيا مهاتير محمد: "إنّ 50% من التعاملات المالية عبر شبكة المعلومات الدولية في مجال المنتجات الإباحية وبينما نحن المسلمين نغطي عوراتنا بكل طاعة واتباع لديننا فإننا نُجرّ لتنـزيل أفحش الصور والأفلام من الإنترنت، وتتهدد أخلاقنا وأخلاق أطفالنا والأجيال القادمة، حتى يصبح اعتناقنا للإسلام بلا معنى، ولا نعلم عن التقنيات أو الأساليب التي نواجه بها ذلك".(مهاتير محمد، ترجمة جاسم، موقع الإسلام على الطريق "
www.islamonline.net/Arabic"، شبكة المعلومات الدولية).
* التفوق الأمريكي في صناعة الأفلام والموسيقى، وتمتعها بسوق خارجية ضخمة في ظل انتشار التلفزيون، والأقمار الصناعة، وقنوات الفضاء التي أدخلت البث التلفزيوني إلى كل بيت في العالم.
تشير إحصاءات منظمة اليونسكو عن الوطن العربي إلي أنّ شبكات التليفزيون العربية تستورد ما بين ثلث إجمالي البث كما في سوريا ونصف هذا الإجمالي كما في تونس والجزائر، أما في لبنان فإن البرامج الأجنبية تزيد علي نصف إجمالي المواد المبثوثة إذ تبلغ 58,5% وتبلغ البرامج الأجنبية في لبنان 69% من مجموع البرامج الثقافية، ولا تكتفي بذلك، بل وغالب هذه البرامج يبث من غير ترجمة، وثلثا برامج الأطفال تبث بلغة أجنبية من غير ترجمة في معظمها.(الفاوي:الأهرام 22/02/2001م)
* القابلية التسويقية التي تتمتع بها المنتجات الثقافية الأمريكية الهابطة والمكونة من مزيج ثقافات وافدة من أنحاء العالم، وليست لها هوية ذات جذور محددة.
* قيام أمريكا بتطوير صناعة ثقافية موجهة لشريحة الشباب داخل وخارج أمريكا، وهم الشريحة الأوسع على مستوى العالم، وهم رجال المستقبل الذين سيشغلون في مجتمعاتهم مواقع التأثير والنفوذ. ولقد فتحت أمريكا معاهدها وجامعاتها أمام الطلبة من أنحاء العالم، وهؤلاء يشكلون النخب في بلدانهم بعد عودتهم إليها بما يحملون من الأنماط الثقافية وطرق التفكير المقتبسة من أمريكا ".( خليل: موقع الإسلام على الطريق "
www.islamonline.net/Arabic"، شبكة المعلومات الدولية)
ويكفي أن نعلم أن أطلقت الولايات المتحدة قبل أشهر محطة إذاعة جديدة باللغة العربية باسم إذاعة سوا، تبث على مدار أربع وعشرين ساعة، وتشرف عليها صوت أمريكا، وهي موجهة للعالم العربي، وتهدف استمالة الشباب المسلم بشكل عام، والشباب العربي خاصة، وتمّ رصد 30 مليون دولار كنفقات لمدة ستة أشهر لشبكة إذاعية جديدة تستهدف الشباب العربي، وقد بذلت لجنة العلاقات الدولية في مجلس النواب الأمريكي أموالاً ضخمة بلغت 479 مليون دولار لمضاعفة نفقات البث الإذاعي الأمريكي كي تغطي كل البلدان الإسلامية من نيجيريا إلى إندونيسيا، ودفعت لجنة المخصصات في مجلس النواب الأمريكي أموال كبيرة بزيادة قدرها 19 مليون دولار؛ لإحياء محطات إذاعية منفصلة خاصة بأفغانستان. (مجلة المجتمع، عدد 1495، 1423هـ- 2002م).
إنّ عملاء الغرب في العالم الإسلامي الذين يروجون العولمة يحاولون جادين تعميم الفلسفة المادية والفكر الغربي العلماني ليصبح العالم الإسلامي جزءاً من المنظومة العلمانية العالمية التي تتميّز بخصائص معينة وتظهر بثقافة واحدة، تتجاوز الفكر الإسلامي بكل أبعاده الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والخلقية. "وإذا كان العالم الإسلامي يوجد تحت تأثير ظاهرة العولمة الثقافية، بالنظر إلى أوضاعه الاقتصادية، والاجتماعية، والتعليمية والثقافية والعلمية، والإعلامية التي هي دون ما نطمح إليه، فكيف يتسنىله أن يواجه مخاطر هذه العولمة ويقاوم تأثيراتها ويتغلب على ضغوطها؟.
إنّ الواقع الذي تعيشه بلدان العالم الإسلامي يوفّر الفرص المواتية أمام تغلغل التأثيرات السلبية للعولمة الثقافية، لأن مقوّمات المناعة ضد سلبيات العولمة، ليست بالدرجة الكافية التي تقي الجسمَ الإسلاميَّ من الآفات المهلكة التي تتسبَّب فيها هذه الظاهرة العالمية المكتسحة للمواقع والمحطّمة للحواجز".(التويجري:مصدر سابق)