العولمة واثرها على التنشئة الاجتماعية
دراسة ميدانية
د. وائل فاضل علي
الفصل الأول
اولاً – مشكلة الدراسة :
للتنشئة الإجتماعية دور بالغ في عملية بناء المجتمع على الصعيد الإقتصادي والثقافي والسياسي والنفسي ، وإن الأسرة هي المؤسسة الأجتماعية الأولى المسؤولة عن التنشئة الأجتماعية والضبط الأجتماعي ، اذ أنها تلعب دورا أساسيا في السلوك السوي وغير السوي لأفرادها ، من خلال نوع التنشئة الأسرية التي تقدمها لهم ، فانماط السلوك وطبيعة التفاعلات بين الأدوار الأسرية داخل الأسرة هي الأنموذج الذي يؤثر سلبا او ايجابا في أعداد الناشئين للمجتمع الكبير ، هذا الأنموذج قد يفرز أفراد متطرفين في المستقبل ، ايا كان هذا التطرف دينياً او اجتماعياً او سياسياً . وقد تصادف المجتمعات والجماعات الإنسانية بعض المشكلات في تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي من أهدافها في عملية التطبيع والتنشئة الاجتماعية لأجيالها في كل زمان ومكان، ولكن مشكلات التنشئة الاجتماعية في هذا العصر بدت أكثر صعوبة وأشد تعقيدا؛ ما حدا بالسَّاسة والمربين والمصلحين على كافة المستويات أن يجدوا في البحث عن مخرج لتلك الأزمة التربوية الاجتماعية ذات العلاقة بكثير من جوانب الحياة الدينية والأمنية والاقتصادية وغيرها.
وعملية التنشئة الاجتماعية عملية مستمرة طوال الحياة ، وهي لاتقتصر فقط على الطفولة ولكنها تستمر في المراهقة والرشد وحتى الشيخوخة ، وهي عملية معقدة تستهدف مهام كبير ولها وسائل واساليب متعددة لتحقيق اهدافها ، كما أن لها مؤسسات متعددة ومتفرعة وكل منها له دور في إتمام التنشئة للفرد وفي مختلف مراحله العمرية وعلى أكمل وجه ومن تلك المؤسسات السرة والمدرسة ودور العبادة وغيرها .
ومع ظهور ألانفجار المعرفي ظهرت مؤسسات أخرى اصبحت تلعب دوراً بالغ الأهمية ولعلها ابرزها وسائل الإعلام والفضائيات وشبكة المعلومات الألكترونية ( الأنترنت ) التي بدأت تلعب دوراً كبيراً في هذه العملية يضاهي الدور الذي تلعبه الأسرة او المدرسة خاصة وان عدد كبيراً من الأفراد أصبح اليوم يقضي وقتاً أطول في متابعة هذه القنوات الفضائية أو وسائل الاعلام او الأنترنت بمختلف البرامج التي تقدمها والمعلومات التي يستقيها الفرد منها وفي كافة المجالات وعلى كل المراحل العمرية المختلفة .
وبما إن هذه الوسائل اليوم وفي الغالب منها يتبع نظام العولمة بل ويدعو له بشتى الطرق والوسائل فقد أثر ذلك وبشكل سلبي على اساليب التنشئة الأسرية المتبعة في الوقت الحاضر والتي بدأت تختلف لا في شكلها أو تسميتها فقط بل في جوهرها ، حيث اصبح الآباء الآن والمسؤولون التربوين في وضع وحال لا يحسد عليها احد فهم مطالبون لا فقط بالرقابة على ما يتابعه الأبناء بل أيضاً في تفسير الكثير من الاراء والثقافات الجديدة التي بدات تظهر والتي يتسائل عنها الأبناء او قد يتشبعنها من دون المعرفة الكاملة بها وما تحتويه من قيم وعادات وتقاليد وثقافة بعيدة عما يحمله الآباء من عادات مقيم وتقاليد وثقافة . إن العولمة الان بدات تنشر أفكارها وأفكار المنادين بها من اوسع الأبواب وبوسائل متنوعة وهذا الدخول الكبير لها لابد من ان يكون له تاثير على واحدة من اهم عمليات بناء الأنسان ألا وهي عملية التنشئة الأجتماعية ومن هنا تبدوا لنا مشكلة الدراسة الحالية والتي يمكن تلخيصها بالتساؤل الاتي :ماهي آثار العولمة على عملية التنشئة الأسرية ؟
ثانياً – أهمية الدراسة :-
تنبع أهمية هذه الدراسة من موضوعها «التنشئة الاجتماعية» الذي لا يكاد ينفك عن كثير من المشكلات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي يعيشها أي مجتمع في أي مرحلة من مراحل تاريخه. حيث من خلال التنشئة الاجتماعية تتم عملية نقل القيم والمعايير التي يرغب المجتمع في غرسها في نفوس أبنائه ، للحفاظ على كيانه والتصدي لما يعترضه من مشكلات . لذا فإن للدراسة الحالية اهمية من خلال النقاط الاتية :
1. أنها قد تمثل اضافة نظرية إلى ما مكتوب من ادبيات سابقة عن موضوع العولمة او مو ضوع التنشئة الأجتماعية .
2. إنها من الدراسات القليلة التي تحاول التطبيق الميداني لمعرفة آراء أصحاب العلاقة (أولياء الأمور)
في آثار العولمة على تربية الأبناء في الوقت الحاضر .
3. إن هذه الدراسة تسلط الضوء على واحدة من أهم الموضوعات في حياة المجتمعات كافة والعربية بصورة خاصة والمتمثل في دراسة العولمة ومفهومها وآثارها على عملية التنشئة الأسرية .
ومن خلال هذا كله ونظرا الى اهمية هذا الموضوع في حياتنا اليوم وايضا نتيجة لقلة او ندرة الدراسات والابحاث التي اجريت في هذا المجال فقد ارتأى الباحث ان يقدم على خطوة لعلها تكون ذات فائدة علمية وعملية مستقبلا في ربط موضوع العولمة بقضية هامة في حياتنا ومستقبل الاجيال والمجتمع الا وهو موضوع التنشئة الاجتماعية ، التي باتت الان في خطر كبير اذا لم ياخذ بنظر الاعتبار استخدام اساليب التنشئة بصورة صحيحة تتوافق مع معطيات العصر ومتطلباته وانفتاحه والا فان هذه العملية ستتخللها الصعوبات وتؤدي الى نتائج سلبية اكثر من كونها ايجابية .
ثالثاً –أهداف الدراسة :-
تستهدف الدراسة الحالية الى تحقيق الآتي :
1. تسليط الضوء على مفهوم العولمة .
2. بيان الوسائل التي تستخدمها العولمة والتي تشارك في عملية التنشئة الأسرية .
3. بيان آثار العولمة على عملية التنشئة الأسرية ، من وجهة نظر الجالية العربية المقيمة في السويد .
فرضية الدراسة :-
تهدف الدراسة الحالية الى التحقق من صحة الفرضية الآتية :
"إن للعولمة أثراً سلبياً في عملية التنشئة الأسرية من وجهة نظر الجالية العربية المقيمة في السويد ."
رابعاً – حدود الدراسة :-
اقتصرت الدراسة الحالية على عينة عشوائية من افراد الجالية العربية المقيمة في السويد بلغ عددها ( 50) أسرة من الساكنين في مناطق الجنوب للعام 2006-2007 .
خامساً-تحديد المصطلحات :
1. العولمة Globalization :- قبل تعريف العولمة لعله من المستحب تحليل كلمة العولمة لغوياً ، فإن كلمة العولمة يقابلها في اللغة الإنكليزية ( Globalization ) وليس كلمة ( Globalism ) كما استخدمه بعض الكتاب والباحثين ذلك أن الكلمات الإنكليزية المنتهية بـ ( ism ) يقصد بها تسمية الاتجاهات العامة ، وعرب مجمع اللغة العربية ( ism ) بـ ( ية ) مثل الرأسمالية والاشتراكية . أما الكلمات المنتهية بـ ( tion ) يقصد بها التعبير عن إحداث الاتجاه ، فمثلاً الرأسمالية تترجم إلى ( capitalism ) أما ( capitalization ) فتعني إحداث الاتجاه نحو الرأسمالية أي الرسملة . وعلى هذا الأساس فكلمة (Globalism ) تعني العولمية وليس العولمة (اليوسفي ، 1999 ).
وتعرف كلمة العولمة من الناحية اللغوية في اللغة العربية :
1 ـ مصدر مشتق من فعل عولم ومعناه حول وعالج العالم .
2 ـ اسم جامد يلوح فيه علم وعالم أي تطور العالم بالعلم .
3 ـ مصدر صناعي من فعل عـولم ويصبح المصدر الصناعي عـولمية بإضافة ياء مشددة وتاء مربوطة ( الحمد ، 1999، ص 48 )
ويقـول المفكر العربي المغربي محمد عابد الجابري معرفاً العولمة : " هي نفي للآخر وإحلال الاختراق الثقافي محل الصراع الإيديولوجي " ، وإذا كان الصراع الإيديولوجي صراعاً حول تأويل الحاضر وتفسير الماضي والتشـريع للمستقبل فإن الاختراق الثقافي يستهدف العقل والنفس ووسيلتهما في التعامل مع العالم .
تعني العولمة في مدلولها اللغوي: " تعميم الشيء وتوسيعه لشمل العالم كله ، وهى تعني هنا تعميم فكر أو أسلوب أو ثقافة أو قيم أو أنماط سلوكية أو توسيع دائري ليشمل العالم بأسره (سنبل ، 1999،ص18) وقد عرفها الشيرازي بأنها : "إعطاء الشيء صفة العالمية من حيث النطاق والتطبيق " ( الشيرازي ، 2000) .
على ذلك تعددت تعريفات العولمة واختلفت، في مضامينها ومحدداتها، فمن التركيز على البعد الثقافي في هذه العملية وما أوجدته من نمطية محددة في الإنتاج والاستهلاك(Anthony, 1992,pp1-130 )، إلى التركيز على البعد الاقتصادي من حيث إطلاق حرية حركة رؤوس الأموال والسلع عبر الحدود دون عقبات، بما يؤدي إلى معطيات اقتصادية جديدة(زكي ،1997، ص505) إلى ملاحظة "انكماش المكان، وانكماش الزمان، واختفاء الحدود" في إطار سيطرة الأسواق على هذا التحول العالمي الواسع دون أن يجري تقاسم فرص العولمة تقاسماً عادلاً بين الشعوب والأفراد، كما أوضح برنامج الأمم المتحدة الإنمائي U.N.D.P. في تقاريره السنوية (تقرير التنمية البشرية ، 1999 ) .
إن صياغة تعريف العولمة تعريفاً دقيقاً تبدو شاقة لتعدد تعريفات العولمة التي تختلف باختلاف إيديولوجيات الباحثين، أو رؤيتهم السياسية، أو وجهتهم العامة التي ينحازون إليها إزاء العولمة رفضاً أو قبولاً، وقد تجاذب مفهوم العولمة ثلاثة تيارات :
- التيار الأول: يرى أن العولمة هي هيمنة القوى الاقتصادية، والعسكرية على الأرض، وبكلام أكثر دقة أمركة النظام الاقتصادي والسياسي والثقافي والاجتماعي.
- التيار الثاني: يرى أنها عملية تبادل منافع وخبرات ومعارف بين أمم وشعوب الأرض، وتحرر وتكامل اقتصادي.
- التيار الثالث: يرى أنها ظاهرة حضارية تؤدي إلى تحويل العالم إلى قرية كبيرة تتلقى نفس التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإعلامية، وهذا كله يقود إلى الاندماج المتسارع للاقتصاد العالمي. (عبد الله ،2001 ) .
ويمكن لنا ان نعرف العولمة في هذه الدراسة إجرائياً بإنها المعلومات المختلفة التي يتلقاها الفرد ومن مختلف الوسائل والقنوات وما يمكن أن يحدثه من تاثيرات على عملية التشئة الأجتماعية من وجهة نظر الفراد المجيبين على الأستيبان المعد لهذا الغرض .
2. التنشئة الاجتماعية :-
اختلف العلماء في تعريف التنشئة الاجتماعية ، تعددت التعاريف التي أعطيت لهذه القطعة المفاهيمية حتى انه يصعب جمعها كلها . تدل التنشئة الاجتماعية في معناها العام على العمليات التي يصبح بها الفرد قادرا على الاستجابة بوعي للمؤثرات الاجتماعية وما تتضمنه المؤثرات من التزامات تفرضها من واجبات قصد العيش مع الآخرين وسلوك مسلكهم وفي معناها الخاص تعتبر نتاج العمليات التي يتحول بها الفرد من مجرد كائن عضوي إلى شخص آخر.
كما ورد في معجم المصطلحات في العلوم الاجتماعية إن التنشئة الاجتماعية هي:
"العملية التي يتم بها انتقال الثقافة من جيل إلى جيل ، والطريقة التي يتم بها تشكيل الأفراد منذ طفولتهم حتى يمكنهم المعيشة في مجتمع ذي ثقافة معينة . ويدخل في ذلك ما يلقنه الآباء والمدرسة والمجتمع للأفراد من لغة ودين وتقاليد وقيم ومعلومات مهارات...".
وورد في معجم غرافيتس بأنها " العملية التي من خلالها يتم إدماج الأفراد في مجتمع معين فيستوعبون القيم والمعايير والقواعد الرمزية ويعملون على تعلم الثقافة بشكل عام بفضل العائلة والمدرسة وكذلك اللغة والبيئة.. فهي تمثل التعلم والتوافق .
والباحثان الأمريكيان (بريم) و(أويلر) يعرفانها بأنها العملية التي يكتسب الفرد خلالها المعارف والمهارات والميول التي تسمح له بالمشاركة بصفة عضو أكثر أو أقل فاعلية في الجماعة . ( حموي ، 1999) .
عرفها تشيل بأنها العملية الكلية التي من خلالها يتم توجيه الفرد نحو تنمية سلوكه الفعلي إلى ما هو معتاد ومقبول إجتماعياً على وفق ما موجود لدى الجماعة التي ينتمي اليها. كما عرفها بارسونز بأنها عملية تعليم تستند على مختلف عمليات التقليد والمحاكاة والتوحد الاجتماعي عند الطفل مع الأنماط العقلية والعاطفية والأخلاقية للراشد وتهدف إلى إدماج عناصر الثقافة في نسق الشخصية وهي عملية لا نهاية لها بل مستمرة باستمرار.(Inkeles, 1968, p.95)
وهي في تصور صالح أبو جادو عملية نمو وتحول الطفل من الاعتماد على غيره والتمركز حول الذات والبحث عن الحاجات الفسيولوجية فقط إلى فرد راشد يدرك مفاهيم المسؤولية ويتحملها ويعتمد على نفسه وله القدرة على ضبط انفعالاته والتحكم في سلوكه وإشباع حاجاته وفق ما تتطلبه المعايير الاجتماعية والقيم التي يفرضها المجتمع وقادر على إنشاء علاقات مع غيره من الأفراد المحيطين به في علاقات اجتماعية سليمة. ( خزاعلة ، 1998، ص120 )
يمكن القول أن التنشئة الاجتماعية هي عملية تكامل وتفاعل اجتماعي تتكون خلالها شخصية الفرد وتعكس ثقافة المجتمع حيث يكتسب الفرد قيم واتجاهات ومعايير وعادات وتقاليد هذا المجتمع والغرض من هذا التفاعل الاجتماعي هو إكساب الفرد سلوكيات ومعايير واتجاهات تتناسب مع الأدوار الاجتماعية المحددة له داخل جماعته, والتوافق معها وبذلك يصبح اجتماعيا في تعامله ويملك القدرة على مسايرة الحياة الاجتماعية والاندماج فيها.
ومن خلال ما تقدم يمكن لنا أن نضع التعريف الاتي : " للتنشئة الأجتماعية وهو : انها عملية تفاعلية تكاملية يكتسب من خلالها الفرد قيم وعادات وتقاليد مجتمعه بما يمكنه من التعامل الايجابي السليم مع افراد المجتمع الذي ينتمي اليه فيما بعد " .
الفصل الثاني
العولمة والتنشءة الاجتماعية
الادبيات السابقة
مقدمة :
يمر العالم اليوم بمغيرات كبيرة شملت معظم مجالات الحياة ولا تقتصر التحولات في العالم اليوم على التقدم التكنولوجي الذي ننظر اليه باعجاب وتقدير لما وصلت اليه التكنولوجيا الغربية الحديثة من تقدم وتطور كبيرين ، بل ان التقدم التكنولوجي الكبير ادى الى تغيير في جميع مجالات الحياة ومرافقها ومنها الحياة الاجتماعية وعمليات التنشئة الاسرية . ان التقدم الحاصل له جوانب ايجابية لايمكن لاي فرد ان ينكرها او ينكر وجودها واهميته في حياته اليومية ، وفي الوقت نفسه لها جوانب سلبية بدات اثارها تظهر ولو بشكل بسيط الان لكنها تنذر بمخاطر ومشاكل اكبر في حالة عدم الانتباه اليها . ومن اهم مظاهر التغيير التي يواجهها العالم اليوم هو تاثير العولمة على مظاهر الحياة الاجتماعية سواء على مستوى الفرد في الاسرة او على مستوى المجتمعات بصورة عامة .
ان وجود اجهزة الاتصال الحديثة والتقنيات الهائلة فيها واجهزة الانترنت والفضائيات المختلفة ذات الابعاد والاتجاهات المتنوعة تمثل تحديا كبيرا في بعض الاحيان الى الاسرة بصورة خاصة والى المجتمع كله بصورة اعم واشمل في كيفية استخدامها ، ومن يراقبها وهل هناك حاجة اصلا الى مراقبتها وكيفية القيام بذلك وغيرها من الاسئلة المختلفة ذات الاتصال المباشر بهذا الموضوع الحيوي والمهم في حياتنا اليوم ، حيث انها قد صعبت دور الاسرة في عملية التنشئة الاجتماعية ومثلما لها جوانب ايجابية كبيرة ومفيدة ، فان لها اثار لاتقل خطورة على هذه العملية الاساسية في حياة الافراد والمجتمعات .
أولاً-دور الأسرة :-
تعتبر الأسرة هي الوحدة الاجتماعية الأولى التي ينشأ فيها الطفل ويتفاعل مع أعضائها، وبالتالي فهي تؤثر على النمو الشخصي في مراحله الأولى سابقة بذلك أي جماعة أخرى حيث تعد المسؤولة عن بناء الشخصية الاجتماعية والثقافية، بل ان تأثيرها ينفذ إلى أعماق شخصية الفرد ويمسها في مجموعها.
واذا كانت الأسرة هي النواة الأولى لعملية التنشئة الاجتماعية والتي تتولى تنشئة أطفالها أو أفرادها في مراحلهم العمرية المختلفة فهذا لا يعني انها المؤسسة الوحيدة التي تتولى عملية التنشئة الاجتماعية فهذه العملية تتم من خلال عدة مؤسسات كالأسرة والمدرسة والرفاق والمسجد ووسائل الاعلام، وبالتالي فهي العملية التي يتم من خلالها تعليم وتدريب الفرد لأداء الأدوار المنوطة به اجتماعياً واقتصادياً وانتاجياً على مستوى الأسرة والمجتمع .
فالمؤسسات التعليمية تقوم بوظيفة التربية والصقل الاجتماعي نيابة عن الأسرة والمؤسسات الاجتماعية المتنوعة لها دور كبير في عمليات الضبط الاجتماعي والرقابة والتنشئة الاجتماعية والمؤسسات الاقتصادية صناعية وزراعية وتجارية تقوم بجوانب هامة من الوظيفة الاقتصادية التي أصبحت الأسرة الانسانية تعجز عن القيام بها . .
والمؤسسات الاجتماعية هي هيئات شكلت لتعبر عن ارادة المجتمع أو الجماعات التي نشأت فيه لمقابلة حاجاتها، فالمؤسسة الاجتماعية تمثل جهود الأفراد والجماعات المنظمة لمقابلة حاجات الانسان سواء أكانت هذه الحاجات مادية أم معنوية، والتي تظهر نتيجة للظروف والعوامل الاجتماعية الموجودة في البيئة، وفي اطار الحضارة الاسلامية انشئت مؤسسات للرعاية عن طريق الوقف لأغراض الرعاية التعليمية والاجتماعية والصحية وانشئت الجوامع والمدارس والمستشفيات والملاجئ لاغاثة المحتاجين، ويمكن القول ان الاسلام جعل منظمته الأولى المسجد الجامع .
وإذا كانت الأسرة ليست هي المؤسسة الاجتماعية المسؤولة عن التنشئة الاجتماعية اذ أصبح هناك العديد من المؤسسات الاجتماعية الأخرى التي تشارك في هذه العملية إلا أنها تظل الأكثر أهمية وتأثيراً خاصة في سنوات الطفولة، ولا شك ان دور الأسرة في التنشئة الاجتماعية اكتسب أهمية مضاعفة بالنظر إلى عمليات التغير الاجتماعي المتسارع التي شهدتها وما تزال الاقطار العربية، ثم ما تطرحه العولمة على الأمة العربية من فرص وتحديات جديرة بالتأمل والدراسة, وبقدر ما كانت عمليات التنمية والتغيير الاجتماعي تطرح على الأسرة مشاكل وتحديات تتعلق بتكوينها وتماسكها، ودورها في عملية التنشئة بقدر ما كانت هذه المشاكل والتحديات تبرز دور الأسرة العربية، وتؤكد أهمية الأدوار التقليدية التي يجب أن تقوم بها الأسرة العربية . .
وفي عصر العولمة واللامركزية وما شهده العالم من تطورات هائلة في مجال تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات والسماوات المفتوحة أصبح العالم أشبه بقرية صغيرة وأصبحت الدول النامية تواجه اشكالية التعايش والتفاعل مع هذا العالم المتغير، من خلال تعليم وتأهيل الانسان القادر على التفاعل الايجابي والتعامل الواعي مع هذه التطورات ومحاولة تحقيق المعادلة الصعبة التي تقتضي التعامل مع تحديات العولمة، وفي الوقت ذاته الحفاظ على الهوية الثقافية لهذه
والواقع ان القضايا والاشكاليات التي تطرحها العولمة على عملية التنشئة الاجتماعية ودور الأسرة والمؤسسات الاجتماعية المختلفة لم تلق الاهتمام الكافي من البحث والدراسة، فمن الثابت ان العولمة تسهم في زيادة التباعد والتفاوت الاجتماعي الاقتصادي والتعليمي والمعرفي بين الناس، كما ان الآثار الاقتصادية المصاحبة للعولمة قد تدفع الحكومات في العالم الثالث إلى خصخصة بعض مؤسسات التنشئة الاجتماعية كالاعلام والتعليم أو على الأقل بعض المدارس والجامعات، وبالتالي تحجيم الرؤى التربوية، وفوق كل شيء تحديد رؤية الأهداف التربوية، اذ تصبح الأهداف الانسانية والثقافية والاجتماعية للتعليم على وجه الخصوص ثانوية بالنسبة للمعايير ذات الطابع الاقتصادي.
ومثل هذه التحولات اضافة إلى انفجار ثورة الاعلام والمعلومات والتدفق الحر للأخبار والمعلومات والصور والرموز عبر الحدود، سيؤدي إلى اضعاف بعض الأدوار التي كانت تقوم بها الدولة والأسرة في عملية التنشئة الاجتماعية، من هنا تبدو أهمية الاهتمام ببحث ودراسة أبعاد ووسائل دعم وتطوير دور الأسرة في عملية التنشئة الاجتماعية في ظل العولمة . .
ثانياً-التدفق الاعلامي وثورة المعلومات :
انتشر استخدام التلفزيون في البلاد العربية، بل بات يمثل وسيلة اساسية للترفيه والتثقيف والتعلم والتنشئة الاجتماعية بين السواد الأعظم من الأسر العربية، وقد تعرض كثير من الدراسات العربية للآثار الايجابية والسلبية للتلفزيون على التنشئة الاجتماعية بعامة ، وعلى دور الأسرة في عملية التنشئة الاجتماعية ، والتفاعل الاجتماعي داخل الأسرة، وتشير اشد التقديرات حذراً إلى أن أطفال ما قبل المدرسة في أمريكا يمضون أكثر من ثلث ساعات يقظتهم في مشاهدة التلفزيون 15 ورغم عدم وجود احصاءات مماثلة في البلاد العربية إلا ان كل الدلائل قد ترجح ان الاطفال العرب لا يختلفون عن الأطفال الأمريكيين في ساعات المشاهدة، خاصة مع تعدد وتنوع قنوات البث التليفزيوني، ووجود حوالي 51 قناة فضائية عربية، إلى جانب عشرات القنوات المحلية والاجنبية .
والشاهد ان العولمة تطرح وسائل جديدة واشكالا ومضامين اعلامية جديدة على الأسرة العربية ، فقد اتاحت تكنولوجيا الاتصال امكانية تعرض الأسرة العربية للبث المباشر عبر الأقمار الصناعية ، وازدحمت السماوات بالفضائيات العربية والأجنبية والتي تبث برامج ومضامين واعلانات مغايرة للثقافة العربية ولقواعد السلوك والأخلاق السائدة . .
ولا تتوافر احصاءات عن عدد الأسر العربية التي تستقبل البث الفضائي، لكن كل المؤشرات ترجح ان هناك زيادة مطردة في عدد هذه الأسر وذلك نتيجة رخص تكنولوجيا استقبال البث الفضائي، كذلك توجد مؤثرات عن الزيادة المستمرة في اعداد الأسر التي تمتلك أجهزة كمبيوتر وتشترك في خدمة الانترنت، ويقدر حالياً عدد العرب المشتركين في خدمة الانترنت بحوالي 2 مليون مشترك.
ورغم ما يتيحه التدفق الاعلامي والمعلوماتي لافراد الأسرة العربية من فرص للتعرف على العالم الخارجي والتعلم واكتساب خبرات جديدة، إلا أن هناك عددا من المخاطر والتحديات ترتبط اساساً بأن أغلب ما يبث عبر الفضائيات العربية والأجنبية هي برامج ومضامين واعلانات مستوردة من الخارج، كذلك فان العاب الاطفال الالكترونية مستوردة، والثابت ان البرامج والمضامين وألعاب الأطفال المستوردة تتوافر فيها عناصر الجودة الفنية والابهار مما يجعلها تحظى بنسب مشاهدة مرتفعة اذا ما قورنت بالبرامج المنتجة محلياً أو عربياً لكن البرامج والمضامين المستوردة تحفل بالعنف والاثارة والجريمة، الأمر الذي يعني ان الأطفال داخل الأسرة العربية يتعرضون خلال ساعات المشاهدة لافكار وقيم وتقاليد بعيدة عن الواقع العربي والثقافة العربية، مما ينتج عنه نوع من الازدواجية والتناقص بين واقعهم المعاش وبين الواقع المتخيل أو المنقول لهم عبر شاشات التليفزيون ومن قنوات عربية أو أجنبية . .
ولا شك أن فيض الأفكار والصور والرموز المرتبطة بثقافات غير عربية والذي يصل للصغار عبر التليفزيون لن يدعم من عملية التنشئة الاجتماعية التي يقوم بها الوالدان، بل سيمثل عوامل تهديد وخطر . .
على مستوى آخر فان كثرة استخدام الأطفال للتليفزيون والفيديو سواء للمشاهدة أو اللعب تؤدي إلى ضعف التفاعل الاجتماعي بين الطفل ووالديه، بل بين الطفل نفسه واخوانه واخواته، وطوال العقدين الماضيين تراكمت الأدلة على وجود علاقة بين المشاهد التلفزيونية والتحصيل الدراسي، فكلما زادت مشاهدة الأطفال للتليفزيون، انخفض تحصيلهم الدراسي، كما كان للتليفزيون تأثير سلبي على تبادل الأحاديث والتفاعل بين أفراد الأسرة، ولعب التليفزيون دوراً مهماً في تفكيك الأسرة الأمريكية من خلال تأثيره في العلاقات الأسرة، وتسهيله انسحاب الأبوين من القيام بدور فعال في التنشئة الاجتماعية لاطفالهم، وفي حلوله محل الطقوس الأسرية والمناسب الخاصة . .
وربما يختلف تأثير استخدام الكمبيوتر والانترنت عن التليفزيون أو الفيديو فألعاب وبرامج الكمبيوتر معظمها مستوردة، وتعتمد على صور ورموز ودلالات تنتمي للثقافة العربية، كما تفيض بالعنف وتعلي من شأن القوة، ومن قيم الاستهلاك والروح الفردية كذلك الحال بالنسبة لمواقع شبكة الانترنيت، والتي ينتشر فيها كثير من المواقع الاباحية، كما تقدم فيضا من المعلومات والآراء والأفكار المفيدة وغير المفيدة والتي قد لا تتفق وأسس ومقومات الثقافة العربية الإسلامية.
وكانت البحوث التي أجريت على تأثير استخدام الأطفال والمراهقين في الولايات المتحدة لشبكة الانترنت قد توصلت إلى انهم يكتسبون مهارات جديدة في استخدام الكمبيوتر والتعامل مع التكنولوجيا، واقامة علاقات مع الآخرين، والتعامل مع الواقع الافتراضي، والقدرة على التخيل، والبحث عن المعلومات والحصول عليها في وقت قصير، بالاضافة إلى تطوير قدرة الأطفال والمراهقين على التعبير عن مشاعرهم من خلال الكتابة، واستحداث تعبيرات ونحت مصطلحات جديدة في المقابل رصدت الأبحاث الكثير من السلبيات الناجمة عن استخدام الأطفال والمراهقين للانترنيت لساعات طويلة اهمها اضعاف التفاعل الاجتماعي، والميل إلى العزلة عن بقية أفراد الأسرة، فكثرة وتعود استخدام الانترنيت افرزت ظاهرة مدمني الانترنيت الذين لا يستطيعون الاستغناء عن الانترنيت، ويدركون الواقع الفعلي ويتعاملون معه من خلال الصور والأدوار التخيلية التي تفرضها عليهم شبكة الانترنت، والأهم من ذلك ان الاطفال والمراهقين يطلعون على معلومات وصور اباحية لا تتناسب ونموهم العضوي والعقلي والعاطفي، وهو ما يشكل صدمة شعورية تتطلب رعاية تربوية ونفسية خاصة .
ثالثاً- ثقافة الاستهلاك ونشر القيم الفردية :
اذا كانت العولمة كعملية تاريخية تعتمد أساساً على اقتصاديات السوق وتدويل الأسواق وحرية انتقال عوامل الانتاج والمعلومات فانه من الطبيعي ان تحتل ثقافة الاستهلاك والقيم الفردية مكانة بارزة ضمن عملية العولمة، بل يصبح الاستهلاك والقيم الفردية آليات مهمة في عملية العولمة.
في هذا السياق يرى عالم اللغة الامريكي نعوم تشومسكي ان العولمة هي التوسع في التعدي على القوميات من خلال شركات عملاقة ومستبدة يحكمها أولاً الاهتمام بالربح وتشكيل الجمهور وفق نمط خاص، حيث يدمن الجمهور اسلوب حياة قائماً على حاجات مصطنعة، مع تجزئة الجمهور، وفصل كل فرد عن الآخر، حيث لا يدخل الجمهور الساحة السياسية، ويزعج أو يهدد نظام القوى أو السيطرة في المجتمع .
لقد انتقل اقتصاد العولمة من الانتاج الصناعي الثقيل إلى انتاج السلع والخدمات الاستهلاكية، وفي السنوات الأخيرة ازداد ارتباط السلع الاستهلاكية، وفي السنوات العشر الأخيرة ازداد ارتباط السلع الاستهلاكية الصلبة بالتكنولوجيا اللينة وثيقة الصلة بالمعلومات والترفيه واسلوب الحياة، وتظهر فيها منتجات تجعل الحد الفاصل بين السلع والخدمات غير واضح، والاقتصاد الرأسمالي القديم الذي تصنع فيه المنتجات وتباع من أجل الربح تلبية لطلب المستهلكين,, يستسلم الآن شيئاً فشيئاً لاقتصاد رأسمالي ما بعد حداثي تصنع فيه الحاجات تلبية لطلب المنتجين الذين يجعلون منتجاتهم لا وسيط دونها قابلة للتسويق من خلال الترويج والتغليف والاعلان .
وقد تفوقت الشركات الأمريكية في مجال انتاج وترويج السلع الاستهلاكية ونجحت في اقتحام اسواق عديدة حول العالم، وأصبحت سلاسل المطاعم الأمريكية والمشروبات والسجائر وغيرها من آليات ثقافة الاستهلاك حيث ارتبطت برموز وصور ومعان للتفوق والرفاهية والمتعة، وقد لعب الاعلان دوراً بالغ الأهمية في نشر وتدويل ثقافة الاستهلاك، واعلاء قيم الفردية، والبحث عن المتعة من خلال الاستهلاك، ونجح الاعلان الذي اعتمد على قوة ونفوذ وسائل الاعلام المعولم في الوصول إلى اغلبية سكان المعمورة من مختلف الطبقات والثقافات، وصارت السلع الاستهلاكية وأسماء وعلامات الشركات الكبرى متعددة الجنسيات جزءاً من الثقافة المتداولة بين البشر رغم اختلاف اللغات والثقافات، لقد فرض الاعلان نوعاً من الهيمنة على الأسواق العالمية، وعلى المستهلكين من خلال توحيد وتنميط الأذواق، وخلق اجماع زائف على استهلاك سلع وخدمات قد لا يكون الفرد أو المجتمع في حاجة إليها، أو قد لا تتفق مع احتياجاته واوضاعه المعيشية، بل ولا تتفق وأولويات المجتمع.
في الوقت ذاته ادت ثقافة الاستهلاك وبريق الاعلانات إلى تسليع القيم والأفكار والمعاني والمشاعر من خلال الاحتفاء المبالغ فيه بأهمية الرموز والعلامات المادية، وخلق نوع من الارتهان الزائف بين الحصول على سلعة أو استهلاك سلعة أو خدمة وبين تحقيق السعادة أو الحرية أو حتى الحصول على الحب . .
ان انتشار ثقافة الاستهلاك، عبر آلية الاعلان وحب التملك والمحاكاة وتقليد الآخرين تتجسد في الواقع العربي فيما يخلق ضغوطاً اقتصادية وثقافية على معظم الأسر العربية حتى الميسورة منها حيث تظهر رغبات واحتياجات مصطنعة أو غير ضرورية إلا انها تتحول عبر آلية الاعلان وتفشي قيم الاستهلاك والرغبة في تقليد الآخرين إلى احتياجات ومطالب يرفعها الصغار داخل الأسرة مما يرهق كاهل الأبوين مادياً أو معنوياً، والاشكالية هنا إلى أن الفهم الاستهلاكي لا نهاية له، وبالتالي فانه يخلق ضغوطاً اقتصادية مستمرة، الأمر الذي قد يثير توترات في عملية التنشئة الاجتماعية وفي العلاقة بين الوالدين والصغار، من هنا ضرورة أن يحرص الوالدان على مناقشة الأبناء بشأن جدوى ومصداقية الاعلانات، وجدوى السلعة أو الخدمة التي يرغبون في الحصول عليها، مع تعليم الصغار قيم القناعة والرشد في الاستهلاك والاكتفاء، والقدرة على الاستغناء والأهم ان يكون سلوك الوالدين الاستهلاكي قدوة ونموذجا يحتذى أمام الصغار .