علق الفيلسوف الفرنسي "برنارد هنري ليفي" على اعتداء القوات الإسرائيلية على "قافلة الحرية" التي كانت متجهة لغزة قائلاً:"إنها ردة فعل غبية". لم يجد الرجل الذي ملأ الدنيا بالحديث عن حقوق الإنسان والوقوف ضد الاستبداد غير هذه العبارة البسيطة لوصف عدوان خلف عشرات الضحايا، وهو الذي كان قبل أيام يحاضر في تل أبيب حول "المعجزة الإسرائيلية"، التي تمت على يد الجيش الوحيد في العالم "الذي له هواجس أخلاقية".
تشكل حالة "ليفي" مثالاً على أزمة أخلاقية عميقة تعاني منها النخب اليهودية الأوروبية، التي جعلت من تجربة "الهولوكوست" (المحرقة اليهودية في العهد النازي) محور تفكيرها السياسي والفلسفي، في الوقت الذي تقدم حصانة فعلية لتجربة الاستيطان العنصري الوحيدة الباقية في العالم بعد انهيار نظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا.
عانت النخب اليهودية الأوروبية منذ بداية المشروع الصهيوني في فلسطين من إشكالية نظرية حادة، تمثلت في حسم الصراع بين مطلب الاندماج القومي في مجتمعات علمانية ديمقراطية تنتمي لنسيجها الوطني والاجتماعي ومطلب تشكيل "دولة قومية يهودية" مع ما يحف بهذا المفهوم من شحنة لاهوتية وعرقية تعيد تثبيت منطق الجيتو التمييزي ضد الجاليات اليهودية في أوروبا.
وإذا كانت التداعيات المباشرة للمحرقة، قد حولت هذا الإشكال إلى سؤال ثانوي، باعتبار استعجال إنقاذ اليهودي المهاجر، فإن ميلاد "الدولة اليهودية" أعاد الإشكال بقوة إلى واجهة الاهتمام فكرياً وإيديولوجياً.
ولقد توزعت النخب اليهودية الأوروبية بعد قيام إسرائيل إلى اتجاهين رئيسيين:
- اتجاه أول تبنى الأطروحة الصهيونية في مقاربتيها العلمانية اليسارية والأصولية القومية.
- اتجاه ثان رفض الأطروحة من منطلق النزعات الإنسانية التي تبناها بقوة الجيل الاندماجي، معتبراً أن الدعوات القومية تناهض المنظور الكوني الذي بلوره فلاسفة التنوير اليهودي في العصور الحديثة.
ومن الواضح أن أغلب عناصر النخب اليهودية الأوروبية ذهبت إلى الاتجاه الأول، مبررة السياسات الإسرائيلية، مشكلة نمطاً من قاعدة الدعم المكينة للدولة العبرية، حتى في أعتى لحظات الصلف والعدوان الممارسين ضد الشعب الفلسطيني.
من أجل هذا المسلك التبريري، بلور خطاب النخب اليهودية الموالية لإسرائيل آليات برهانية أربعة تستدعي وقفة تنبيه:
أولاها: الالتفاف على المرجعية التأسيسية لـ"شرعية" الدولة الصهيونية. من هذا المنظور، يقع السكوت عن الخلفية الميثولوجية للدولة العبرية المستندة لسردية "الوعد الإلهي" وأسطورة الميعاد، مع تحميل الوضع القائم الناجم عن الاستيطان والتهجير القسري للسكان الأصليين دلالة شرعية. بيد أن الاستناد للمرجعية القانونية لتأسيس الدولة (قرارات الأمم المتحدة) لا يحول دون تبرير انتهاك هذه المرجعية في ما يتعلق بحقوق الشعب الفلسطيني المحتل والمحاصر.
فنادرا ما يتناول خطاب النخب اليهودية الأوروبية بالنقد مقومات الأيديولوجية الصهيونية، على الرغم أنها تشكل حالة فكرية نشازاً في السجل المفهومي والمعياري للنزعة الإنسانية الكونية، التي تستند إليها هذه النخب. وإذا كان بناة الدولة العبرية (كهرتزل وبن غوريون..) قد اعتبروا الكتاب المقدس مجرد إطار تعبوي عملي لإنجاح المشروع الاستيطاني في فلسطين، فان النخب اليهودية الأوروبية التي تنتمي في الغالب لـ"اليسار" لا يمكنها التبني العلني الصريح لميثولوجيا العودة وأسطورة الوعد المقدس. ومن هنا الإشكاليات المعقدة التي تصدم بها في الدفاع عن "شرعية" الدولة القائمة.
ثانيتها:الدفاع عن "الديمقراطية الاستثنائية الوحيدة" في المنطقة، في مقابل "الاستبداد العربي"، الذي هو مصدر كل المخاطر وسبب انعدام السلم. من هذا المنظور، لا يكون الدفاع عن إسرائيل انحيازاً قومياً أو تواطؤاً دينياً، بل هو في انسجام كامل مع المبادئ والقيم الناظمة للمجتمعات الغربية الديمقراطية.
والإشكال الذي يطرحه هذا التصور يتعلق من جهة بانعدام علاقة ترابط عضوي بين طبيعة النظام السياسي داخلياً وعلاقته بالأطراف الخارجية (تجربة الدول الديمقراطية الأوروبية الاستعمارية)، ويتعلق من جهة أخرى بما يسم المجتمع الإسرائيلي من ظواهر تفاوت وصدام وتناقض ناتجة عن هوية الدولة، التي قامت على مرجعية اقصائية لمكونها غير اليهودي (خمس السكان أي عرب 1948) ،كما أنها لم تنفك تعاني من تنوع وعدم انسجام مكوناتها القومية (السفارديم والأشكيناز والأفارقة والروس....).
فالديمقراطية الإسرائيلية تشكل في غالب الأحوال حجاباً لتغطية الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان العربي والفلسطيني المحتل والاعتداء على الجيران العرب. ثالثتها:الانزياح الخفي بين المنطق المعياري والمنطق "الواقعي الموضوعي"، بحيث يتم تبرير الجرائم الإسرائيلية دون دفع الاستحقاقات الأخلاقية الخطيرة لهذا التبرير. وهكذا ينظر للاحتلال كمجرد مشهد من حرب شنها العرب على إسرائيل وكحالة تفاوضية مستمرة، كما ينظر للاعتداءات الإسرائيلية ضد المدنيين الفلسطينيين في سياق حرب الإرهاب التي تشكل التجمعات السكانية معتركاً لها يتحمل مسؤوليته المواطن الأعزل لا الجندي المحارب. من هذا المنظور، تتم بلورة مصطلحات تتدثر بالعلمية لإخفاء شحنتها المعيارية كالنزاعات غير المتكافئة والأضرار الجانبية...
رابعتها: منطق المسؤولية المتقاسمة الذي يستخدم في الحالات التي يكون فيها التبرير ممتنعاً، كما هو شأن العدوان الأخير على قافلة الحرية المتجهة إلى غزة. من هذا المنطلق، إذا كانت إسرائيل مخطئة، فإن الطرف الآخر يتحمل جانبا من المسؤولية، بحيث يتساوى الطرفان في الإدانة، وتختزل الجريمة في "ردة الفعل غير المتوازنة"، أو "الاستخدام المفرط للقوة" حسب العبارات الدبلوماسية السائدة.
يحتاج خطاب النخب اليهودية الأوروبية إلى التفكيك والنقد، بإبراز تناقضاته، وإظهار تهافته، وتعارضه مع تركة التيار الإنساني التنويري اليهودي الحديث، الذي أدرك خطورة الميثولوجيا المسيانية ونزعة التفوق والانغلاق المتجذرة في الأوساط اليهودية.
شكل الفيلسوف الهولندي الكبير "سبينوزا" أب هذا التيار، الذي نلمس أبرز تجلياته اليوم في كتابات العالم اللساني الأميركي "نعوم تشومسكي" الذي حرمته سلطات الاحتلال الإسرائيلي في الأسبوع الماضي من زيارة المناطق الفلسطينية المحتلة. وقد اعتبر "تشومسكي" في خطابه الموجه لإسرائيل أن الدولة العبرية دنست تركة المحرقة بالهولوكوست الإجرامي الذي مارسته ضد السكان الفلسطينيين المحاصرين في ما يشبه معسكرات الاعتقال النازي.