مؤتمر الخدمة الاجتماعية والمواطنه، المعهد العالى للخدمة الاجتماعية بالمنصورة، مايو 2009
المواطنة العالمية والايكولوجية والسياسة الاجتماعية الدولية
قراءة واعية
الأستاذ الدكتور
طلعت مصطفى السروجى
عميد كلية الخدمة الاجتماعية السابق
جامعة حلوان
أولا إطلالة عامة:
نقف اليوم في مرحلة حاسمة من تاريخ الأرض، مرحلة على الإنسانية أن تقرر فيها مستقبلها. في الوقت الذي تزايد فيه اعتماد كل جزء من العالم على الأجزاء الآخرين واتصاف هذا العالم بالهشاشة، ينطوي المستقبل على الكثير من المخاطر ومن الفرص المتاحة. وحتى نسير قدماً علينا أن نقر بأنه وفي خضم التعدد الرائع للحضارات الإنسانية ومظاهر الحياة فإننا نشكل عائلة بشرية واحدة ومجتمع عالمي واحد ذو مصير مشترك.
إن علينا أن نتحد سوياً لإيجاد مجتمع عالمي مستدام يقوم على احترام الطبيعة وحقوق الإنسان والعدالة الاقتصادية وثقافة السلام. ولهذه الغاية فإن علينا نحن سكان الأرض أن نعلن مسؤوليتنا كل تجاه الآخر وتجاه المجتمع الإنساني وتجاه الأجيال القادمة.
وتعد المواطنة من القضايا القديمة المتجددة التي ما تلبث أن تفرض نفسها عند معالجة أي بعد من أبعاد التنمية بالمفهوم الإنساني الشامل والإصلاح والتطوير
وحاول جون رالستون سول فى كتابه ،إنهيار العولمة وإعادة إختراع العالم(1) إلى إعادة تقييم النظام العالمي في محاولة للتعرف على مصادر قوته وضعفه وفي تأثيراته الكونية وما تبع العولمة من هيمنة العوامل الاقتصادية ، وبما ترتب عليها من حرية التجارة والسوق الدولية وهو ما اقتضى على الدول أن تتحرر من القوانين والضوابط.
إن حرية التجارة اقتضت نمو حركة بيع القطاع العام على أساس أن إدارة القطاع الخاص أكثر كفاءةً، لكن عوائد هذه السياسة قد انتهت إلى جيوب مجموعة من أصحاب رأس المال، وقد أدى البعض إلى المضاربات والمرابحات في سوق المال والبورصة المالية العالمية وإلى الاحتكارات لبعض السلع، أو إلى موائد القمار.
يوجد إحساس لدى الباحثين فى مختلف الدول أن العولمة تمثل تهديدات وفرصا فى نفس الوقت للمواطنة. ذلك أن سياسات التحرر الاقتصادى قد أثرت سلبا على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لعديد من المواطنين ، غير أن سقوط الحواجز بفضل ثورة الاتصالات، أدى إلى توسيع الوعى الدولى بالحقوق، وسهل إنشاء شبكات للمجتمع المدنى على المستوى الكونى.
وفى سياق عالمى يتسم بالتعقيد والعمليات المتناقضة ، فإن الشعوب تناضل لحماية روح التضامن أو لخلقها من خلال تنمية المؤسسات توفر لهم الحماية الاجتماعية. يحدث ذلك فى دول الرعاية الاجتماعية الغربية المستقرة، كما يحدث بصور أخرى فى دول العالم الثالث. بالنسبة لدول الرعاية الاجتماعية هناك محاولات للدفاع عن الاستحقاقات التى توفرها المواطنة الاجتماعية. وفيما يتعلق بدول العالم الثالث، هناك محاولات لتحقيق الإصلاح السياسى لتأسيس حقوق المواطن ذلك لأن المفهوم الحديث للمواطنة يفترض وجود مجتمع مدنى وسياسى، ومجموعة من الحقوق والالتزامات، ونسق أخلاقى يحض على المشاركة والتضامن، وهى أمور مطلوبة على وجه الخصوص فى الأوقات التى يسودها عدم اليقين والاستقطاب السريع بين الفئات الاجتماعية.
وأغلب الجدل حول الموضوعات المختلفة للمواطنة تدور عادة داخل الحدود القومية لتأكيد الحقوق الأساسية السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمواطنين. غير أنه من الملامح البارزة للمناخ الفكرى الراهن أن الشعوب بدأت فى عقد تحالفات عابرة للقوميات من خلال المؤسسات الدولية ومؤسسات المجتمع المدنى العالمية لصياغة حقوق جديدة فى إطار فضاءات تتجاوز الحدود الضيقة للدول.
ويمكن إيجاز التطورات المعاصرة فى مجال المواطنة فى أنه تجرى محاولات لإعادة صياغتها من أدنى المستويات المحلية إلى أعلى المستويات الكونية.
إن مفهومى العولمة والمواطنة، يكونان ثنائياً مترابطاً فى مجال الجدل العالمى الراهن. والعولمة تشير إلى الصور المعاصرة للتغيرات البنيوية السريعة، أما المواطنة فتشير إلى الحماية الاجتماعية وإعادة بناء روح التضامن.
ونظراً للتطورات العالمية فى العقود الأخيرة، فقد أتضحت ضرورة الربط بين العولمة والمواطنة.وفى مجال التفرقة بين الاتجاهات الفكرية المتناقضة فى تعريف العولمة، ألقى عالم الاجتماع الإنجليزى الشهير أنتونى جيدنجز خطاباً افتتاحياً هاماً فى مؤتمر الأمم المتحدة فى جنيف عن العولمة والمواطنة ويقرر جيدنجز أنه يمكن تصنيف المفكرين فى مجال العولمة إلى تيارين. الأول يقوده دعاة العولمة المبالغين hyper - globalizer، والتيار الثانى يقوده المتشككون فى العولمة globalization scepitcs أصحاب التيار الأول مرتبطون إيديولوجيا بعالم الأعمال، والعولمة تعنى لديهم اتساع السوق، لدرجة أن الدول القومية فقدت كثيرا من عناصر القوة التى كانت تمتلكها. وتقول هذه النظرية أن المشكلات التى يعانيها السياسيون عبر أقطار العالم المختلفة تعبر عن هذا الإحساس بالافتقار إلى القوة، وأن العولمة كما تستخدمها هذه المدرسة من مدارس التفكير ليست مجرد أداة تحليلية، بل إنها أيديولوجية متكاملة تحاول أن تفرض نفسها على اتجاهات المستقبل العالمى.
وعلى نقيض هذا التيار، يأتى تيار المتشككون فى العولمة، أن مراجعة سجلات التجارة الكونية تثبت أنها كانت أكثر ارتفاعا فى معدلاتها فى بداية القرن العشرين عنها فى الوقت الراهن! وأنه فى عام 1900 وما بعدها بل حتى أواخر القرن التاسع عشر، كانت هذه المعدلات أكثر ارتفاعاً عنها فى الوقت الراهن. ويمكن التدليل على ذلك بالإحصائيات، لكى يثبت أن أطروحة العولمة المتداولة ليست سوى أسطورة!
وهذه النظرية جذابة ولا شك لأهل اليسار، وذلك لأنه إذا لم يكن فى العولمة أى جديد، فمعنى ذلك أن الأمور يمكن أن تسير تماما كما كان هو الحال فى السابق. بمعنى أن دولة الرعاية الاجتماعية يمكن أن تستمر فى أدائها، وكذلك الجهاز الديموقراطى، مع نسبة معينة من قوة الاقتصاد القومى يمكن الحفاظ عليها.
إن كلا التيارين مخطئ وأن الوقائع الجديدة فى العالم تحتاج إلى نظريات جديدة، لأن النظريات الموجودة لم تعد تصلح للوصف والتفسير والتنبؤ.
إننا لا ندخل فى إطار مجتمع كونى جديد، بقدر دخولنا فى إطار فضاء كونى جديد يتسم بكونه فوضويا وغير مستقر. واختفى التضامن عن طريق الاشتراك فى الدفاع عن قيم اقتصادية مشتركة وافساح الطريق لسياسات الهوية Identity Politics، والاستغلال والاستبعاد Exclusion ويعنى استبعاد فئات اجتماعية كاملة من دائرة التنمية.
فهل التحدى الكبير هو إيجاد مؤسسات جديدة قادرة على إعادة اللحمة بين الاقتصاد والمجتمع.؟
وقدانطوى الأمر علي عديد من تطورات إيجابية كانت تحدث في الوقت نفسه، كان هناك طموحان أساسيان في مجال الديمقراطية الغربية، هما: التعليم الشامل والرعاية الصحية المتكافئة، وكلاهما يعدّ من أُسُس حرية ورخاء المجتمع، وقد قطعَا أشواطًا تاريخية إلى الأمام، وجاء ذلك في معظمه بفضل النظم التي توافرت عليها الحكومات(2)
إن المشكلات التى تتعلق بالديموقراطية والعولمة والتى حددها منبر بارز من منابر الحوار الحضارى حول هذا الموضوع وهو منتدى 2000 الذى أنعقد فى براغ عاصمة تشيكوسلوفاكيا من عام 1997 حتى عام 2001 وانتهى بإصدار ما أطلق عليه إعلان براغ. وهناك أربع مشكلات أساسية حددها هذا المنتدى فما يتعلق بموضوع الديموقراطية والعولمة وهى:
المشكلة الأولى ـ ضرورة صياغة حد أدنى أخلاقياً
المشكلة الثانية ـ الديمقراطية على النطاق العالمى global democracy
المشكلة الثالثة ـ الفعالية السياسية لاقتصاد العولمة
المشكلة الرابعة ـ الهوية المحلية ورأس المال الاجتماعى والتنمية البشرية
-انهيار العولمة
بدا الأمرُ وكأنما ساد الساحة ارتباكٌ واسع النطاق وربما كان الأهم هو الانطباع الأوسع بأن حقائق العولمة الكبرى لم تجدْ طريقَها إلى التجسيدوربما كان أبسط الأمثلة ما تجسَّد نتيجة ذلك التوسع في خصخصة الشركات وكذلك بالنسبة إلى المبالغ الطائلة التي حقنوا بها الخزائن الحكومية في أنحاء العالم، بدأت هذه المبالغ تتبخر دون أن أي أثر، ولا صعودًا اقتصاديًّا، وكان أسوأ ضروب الفشل، هو الاعتراف بالانفصال بين التجارة والنمو، وكذلك الانفصال بين النقود والنموّ.
ومع منتصف التسعينيات كان هذا النظام العقائدي ينهار، وحينئذ استمع الناس إلى أصوات المعارضين ومن أوضح العوامل التي دفعتهم إلى التشكك في صواب العولمة ما رأوه من عجز نظريتها عن زيادة الثروة، وكذلك عجزها عن الحفاظ على جانب العمالة، لقد كانت فترة العولمة إحدى فترات زيادة البطالة!!
و التسلسل الزمني للانحدار، لأحداث لها دلالاتها بدأت عام 1995وفي استمرار التسلسل الزمنيّ للانحدار، بدأت قوى الطرد المركزي تتسارع خُطاها.
وفي عام 1999 اكتسبتْ مفرداتُ العولمة في النطاق العام طابعًا سلبيًّا ودفاعيًّا، ، ويحذرالبعض من أن العولمة يمكن أن تبدِّدَ القيم الأصيلة.(3)
ثانيا:المواطنة بين الوعي الثقافي والمعايير العالمية:
يخطئ من يتصور أن حقوق الإنسان مكرمة من أحد-إلا من الله عز وجل- ويخطئ بالتبعية من يتفاءل في عالم لا يعترف بغير القوة في فرض إرادته علي الأضعف بالدور الذي تقوم به الشعارات البراقة التي تجوب الفضائيات حول الحرية والمساواة والديمقراطية في دعم ثقافة الحقوق الإنسانية.بل يعاني من ضعف الوعي الإنساني من يردد تلك الشعارات باعتبارها قادرة علي تغيير العالم ودعم ثقافة حقوق الإنسان وتأسيس عالم مثالي لا يعترف بالتمييز بين البشر ،إن حقوق الإنسان ليست شعارات بل هي ممارسات وتطبيقات تحتاج إلي الدعم الموضوعي حتي تتأصل في ثقافة البشر لتسترجع الحق الطبيعي في الكرامة الإنسانية صانعة الحضارة والتقدم.
ويعد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان المرشد الأمين الذي سار علي هديه المجتمع الدولي في وضع الاتفاقات الدولية وصياغتها والإعلان عنها في العاشر من ديسمبر عام بل أصبح نقطة تحول في تعزيز الكرامة وتنمية الوعي الإنساني علي الصعيد العالمي ومن ثم انتقل الوعي الإنساني من حدوده المحلية إلي الفضاء الدولي طبقا لمعايير عالمية الصنع, فلم يعد تطبيق المعايير الخاصة بحقوق الإنسان شأنا داخليا صرفا بل صار عالمي المراقبة والتداول لذا وضعت الأسس والمعايير والمقاييس لرصد درجة احترام الإنسان وحقوقه من خلال قاعدة عرفية دولية ينبغي علي الدول احترام مبادئها والعمل بموجبها ولأنها أول وثيقة تتضافر فيها إرادة دول العالم بغية تحقيق كرامة الإنسان أينما كان.
وعلي الرغم من مرور أكثر من نصف قرن علي إصدار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وما تبعه من اتفاقات متعددة فإن جماعات من البشر لازالت تعاني من قهر مزدوج خارجيا وداخليا وتتعرض لاعتداءات خارجية متواصلة من دول كبري تدعي تمسكها بقيم الحرية ونشر ثقافة حقوق الإنسان
لقد بات واضحا من خلال التجارب التاريخية أن النظم السياسية تفشل حين تهمش فيها الحقوق ذات المضمون الاجتماعي مثل: العدالة الاجتماعية والمساواة بين البشر.
وجاءت الديانات السماوية لتشكل منهج حياة وتنظم العلاقة بين الأفراد وبعضهم البعض وبينهم وبين الحاكم علي أسس من العدل والرحمة والمودة والتراحم والتعاون والمساواة وترفض التمييز بين بني البشر علي أسس قوامها المصلحة أو المنفعة أو الجنس أو اللون وتسمح بالحوار مع الآخر وتدعو إلي احترام كافة القيم الإنسانية التي أقرتها الأديان السماوية وتمخضت عنها كافة الاتفاقيات الدولية والإقليمية فيما بعد.
إن إدراك مبدأي المساواة وعدم التمييز محورين أساسيين لحقوق الإنسان ربما يساعدنا في إلقاء الضوء علي حقيقة أن ثمة جزءا لا بأس به من واقع الفقر يرتبط أساسا بممارسات تمييزيه بين البشر سواء كانت هذه الممارسات ظاهرة أو مستترة الأمر الذي يدعو إلي ضرورة إعادة النظر في استراتيجيات مواجهة الفقر والتأكيد علي حق الفقراء في المشاركة في إنتاج التنمية وحصاد ثمارها لأن الحق في التنمية يعد مبدأ جوهريا ومدخلا مهما لتحقيق الحقوق الإنسانية عامة مع مراعاة التكامل بين الحقوق السياسية والمدنية من ناحية والحقوق الثقافية والاجتماعية والاقتصادية من ناحية أخري وهذا ينعكس علي تقوية الاستراتيجيات الفعالة لمواجهة الفقر.
إن المتابع للتطبيقات العملية المعاصرة لحقوق الإنسان علي الصعيد العالمي يدرك ما يأتي:
1- غياب المعني الشامل والدقيق لهذه الحقوق فتتركز معظمهاعلي محاولة تطبيق معايير خاصة ببعض المبادئ مثل الديمقراطية والمشاركة السياسية وحقوق المرأة والطفل دون سواها.
2- أخذت حرية الرأي والتعبير والتنظيم اهتماما متزايدا من وسائل الإعلام وبعض منظمات المجتمع المدني إلا أن غياب الوعي بالأبعاد الثقافية لحقوق الإنسان لدي المسئولين عن الفضاء الإعلامي قلل من فرص إنتشار تلك الثقافة بين المواطنين في أجزاء كثيرة من' القرية الكونية'.
3-همشت الحقوق الإنسانية الأخري عن عمد ولاسيما ما يتعلق بالجوانب الاجتماعية والثقافية والحياتية والاقتصادية وحق الصحة والتعليم والمسكن بالرغم من تزايد الاهتمام بتحسين نوعية الحياةََََQuality of life مما يشير إلي تناقض واضح لا يمكن إدراك فحواه!!.
إن حقوق الإنسان ليست مجرد مجموعة من القواعد والمواثيق والأوضاع الاقتصادية والسياسية وإنما هي قبل كل شيئ' ثقافة'.
ثالثا:الحضارة الإنسانية أم حضارة الرأسمالية؟
من المؤكد أن الحضارة الإنسانية العامة هى إرث عالمى أسهم ويسهم فيه الجميع بدرجات متفاوتة فى سياق من التنافس أو الصراع وربما الاقتتال. ومن المقطوع به أن ما تسمى الحضارة الغربية ذاتها كانت موضع صراع دام فى حربين عالميتين لم يشهد التاريخ نظيراً لهما، فضلا عن مئات الحروب الصغيرة الأخرى لاقتسام العالم. كما أن هذه الحضارة ظلت محل تطور دائب وتفاعل مع غيرها من الاجتهادات الإنسانية الأخرى. فالتعددية الثقافية حقيقة إنسانية .
وإذا نظرنا للحضارة الرأسمالية الراهنة نجدها تقوم على ثلاث ركائز هامة تتساند فيما بينها لتحقق طغيان هذه المنظومة فى عالم اليوم. أولاها: الاحتكار، ممثلاً أساساً فى احتكار العلم والتقنية فى عصر أصبحا من أهم وسائل تحقيق القيمة المضافة بل وسلعة فى حد ذاتها، واحتكار المال واحتكار الأسلحة المتقدمة وخاصة أسلحة التدمير الشامل
أما الركيزة الثانية فهى ممارسة الهيمنة بكافة صورها على المنظمات الدولية والإقليمية والدول القومية، وأيضاً الهيمنة على المؤسسات الحاكمة للاقتصاد العالمى مثل صندوق النقد الدولى والبنك الدولى والمنظمة العالمية للتجارة
أما الركيزة الثالثة فقد تزايدت سفوراً فى الآونة الأخيرة، وتتمثل فى الاستعلاء الثقافى الذى يصيب الكثيرين فى بلدان الجنوب بالارتباك إلى حد تعمق الشعور بالدونية والتسليم بقيم لا تتماشى ومستويات التطور ولا خصائص مجتمعاتهم.
إن حضارتهم قد نشرت الحروب والمظالم فى كل أنحاء العالموليكن الشعار الرئيسى للخطاب المضاد للهيمنة هو "من أجل عدالة دولية حقة".. فبدون هذه العدالة لا تستحق أية قوة أن تزعم كونها تعبر عن حضارة إنسانية.
رابعا:المواطنة بين انعدام وضيق واتساع!
المواطنة (Citizenship ) مفهوم قد يضيق وقد يتسع، قد يضيق ليقتصر على نخبة، وقديتسع ليشمل عدة نخب، وقد يزداد اتساعا فيشمل كل المنتمين إلى دولة ما أو أمة، وفي أحيان قليلة ربما يشمل مفهوم المواطنة كل الجنس البشري في إطار دولة عالمية قد يكون لها شكلالدولة الواحدة، وقد يكون لها شكل التكوين الفيدرالي الذي يجمع عدة دول في إطار حكومة عالمية أو عصبة أمم.
وأنه مفهوم حي يتحرك في إطار سيرورة تاريخية غير منقطعة.
-غياب المواطنة من المعاجم العربية التقليدية
لا توجد في المعاجم العربية التقليدية كلها أي ذكر لكلمة (المواطنة)، لكن توجد كلمات: (وطن- توطن- واطن- الوطن-موطن...).
فالمواطنة إذن كلمة لها أصل عربي مرتبط بموطن الإنسان ومستقره وانتمائه الجغرافي، لكنها هي نفسها كتركيب ومصطلح تم استحداثها لتعبر عن الوضعية السياسية والاجتماعية والمدنية والحقوقية للفرد في الدولة.
-المواطنة في المعاجم الغربية
في السياق الغربي نجد مصطلح المواطنة في اللغة الإنجليزية يشير المصطلح (Citizenship) إلى المساهمة في حكم دولة ما على نحو مباشر أو غير مباشر، كما يستخدم أحياناً للدلالة على العملية أو الحالة التي يعد الفرد بمقتضاها مواطناً لمجرد أنه يعيش في رحاب دولة معينة،
ويشير مفهوم المواطنة (Citizenship) إلى فعل المواطن وعملية المشاركة نفسها. فالمواطن هو عضو في المجتمع السياسي يتمتع بالحقوق ويقوم بواجبات العضوية.
-المواطنة وتوازن الحقوق والواجبات
وثمة توازن بين الحقوق والواجبات، فالمواطنة ليست حقوقًا فقط، بل واجبات أيضاً. وإذا كانت المواطنة تعطي المواطن حقوق المواطنة: فإنها في المقابل تضع على عاتقه مجموعة من الواجبات القانونية، والالتزامات المعنوية، ومسؤوليات المواطنة، كما تفرض عليه الولاء التام للوطن. وتشمل حقوق المواطنة عند توماس همفري مارشال (Thomas Humphrey Marshall) الحقوق السياسية، والحقوق الاجتماعية، والحقوق المدنية. والحقوق السياسية هي التي تصنع المواطنة السياسية، وتتمثل في حق المشاركة بالتصويت أو الوصول إلى المناصب السياسية. وتتحقق المواطنة الاجتماعية من خلال الحقوق الاجتماعية وهي حق الحياة الكريمة وحق التعليم والرعاية الطبية وغيرها. أما الحقوق المدنية فتشمل الحقوق التي يتمتع بها الفرد باعتباره مواطنا، مثل الحقوق الشخصية وحق الملكية وحق الحياة والكرامة والحرية الفردية وتكافؤ الفرص، والمساواة بشكل عام، وغيرها من الحقوق التى حددها (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948م). وتلك الحقوق تتحدد بواسطة الحكومات وتضمنها الدساتير والقوانين، وتصونها الهيئة القضائية.
ويوجد توتر بين عناصر المواطنة الثلاثة وآليات عمل السوق الرأسمالي؛ من حيث إن هذه الأخيرة تؤدي إلى درجة ما من اللامساواة الاجتماعية، أما المواطنة فتعمل على إعادة توزيع الموارد وتأكيد تساوي الجميع في الحقوق.
ويرى بارسونز أن تطور المواطنة يعد مقياسا لدرجة تحديث المجتمع؛ لأنها تعتمد على قيم العمومية (Universalism) والإنجاز (Achievement). وجدير بالذكر أن العمومية تشير إلى مستويات القيمة التي هي على درجة كبيرة من العمومية، في مقابل الخصوصية (Particularism) التي تشير إلى المستويات التي لها دلالة لفاعل معين في علاقات معينة مع أشخاص معينين. أما الإنجاز أو الأداء فيشير إلى التأكيد على تحقيق أهداف معينة.
-التطور الأفقي والرأسي للمواطنة
مرَّ مفهوم المواطنة في إطار الدولة الوطنية ، بتطور أفقي من ناحية وتطور رأسي من ناحية ثانية. فالمفهوم كائن حي، ينشأ وينمو ويتطور
فالتطوّر الأفقي سار في اتجاه توسيع قاعدة المواطنة من الأقلية الأرستقراطية إلى شمول طبقات أخرى تدريجياً وبمرور الزمن، لكن حتى الآن –رغم كل المواثيق وإعلانات حقوق الإنسان- لم تشمل المواطنة كلّ الأفراد من الناحية العملية.
أما التطور الرأسي، فقد تطور المفهوم بشكل مواز لتطور المشاركة في صنع القرار السياسي وممارسة السلطة وتوسيع رقعتها، حيث التقدم تدريجيا نحو تحول سلطة اتخاذ القرار من يد شخص واحد عبر مستويات متوسطة إلى يد عامة المواطنين وفق الآليات الديمقراطية. وحسب دراسات (هانس)(4) استنتج مبادئ عامّة حددها في إن أي ممارسة للسلطة لها ستّ مستويات كالآتي:
المستوى الأول: القرار الفردي لرأس السلطة.
المستوى الثاني : إعلام الجمهور بالقرار دون أخذ رأيهم.
المستوى الثالث: استشارة الجمهور دون الأخذ برأيهم.
المستوى الرابع : استشارتهم والأخذ برأيهم.
المستوى الخامس: إشراكهم في مواجهة القضايا وحلّ المشاكل.
المستوى السادس: وجود سلطة اتخاذ القرار في يد عامة المواطنين وفق الآليات الديمقراطية.
ولا يوجد في جميع الأحوال بالضرورة فصل كامل بين هذه المستويات الستّ.
وأفضل مستوى تتحقق فيه المواطنة هو المستوى السادس حيث تتسّع قاعدة المواطنة بمفهومها الشامل؛ فكلّ الأفراد مواطنون لا يوجد بينهم أي تمييز في الحقوق والواجبات، وتحكمهم المساواة في كل التعاملات المجتمعية بغض النظر عن الدين، العرق، اللغة، الجنس، أو الأصل الاجتماعي.... إلخ. ويشاركون حسب الآليات الديمقراطية في صناعة القرار.