ثورة مصر وبداية النهاية للكيان الصهيوني!
نبيل علقم
يتابع العرب في كل مكان ثورة مصر ويدعون لها، ويقفون معها بصور شتى، أقلها الفرح الذي يرتسم على وجوه عشرات ملايين العرب المقهورين في العالم العربي من محيطه إلى خليجه.
وربما يلجأ الكثيرون من الذين ترتبط مصالحهم بما يسمى "الاستقرار في المنطقة"، أو من الجاهلين بالسياسة والتاريخ معاً، إلى الدفاع المهزوز عن "النظام المصري" ورموزه، ويحاولون التقليل من شأن ما يحدث وكأنه مجرد فورة غضب أدت إلى فقدان الأمن وعمليات السلب والنهب والتخريب التي تضر بالشعب المصري أكثر من ضررها بالنظام السياسي!. وللتدقيق في صحة هذه المقولة وكشف عيوبها الهادمة لها، لا بد من أن نضع الثورة المصرية في إطارها التاريخي والسياسي معاً. وبعيداً عن الخطاب العاطفي ومشاعر الانفعال حول الثورة والثوار في مصر، علينا أن نستحضر خارطة تاريخنا العربي فيما بعد الحرب العالمية الأولى حيث كانت جميع أجزاء الوطن قد احتلها المستعمرون الغربيون من انجليز وفرنسيين وإيطاليين وإسبان بعد تجزئة الوطن العربي، واصطناع كيانات قطرية درجنا على تسميتها بالأوطان. وأضاف المستعمر إلى ذلك ارتكابه لأفظع جريمة في التاريخ وهي إنشاء الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي بعد أن اجتزأ فلسطين من سوريا الكبرى كي يقام فيها هذا المشروع ليكون كلب حراسة للمصالح الغربية في العالم العربي، ومن هنا لا نستغرب أن يُسمِّنَ صاحبُ الكلب كلبَ حراسته بكل ما يطلبه ويريده، كما أنه يدافع عنه مهما فعل من أذى للآخرين، ولا يطيق أن يراه غاضباً، فيغضب لغضبه، ويبذل ما في وسعه لتدليله طمعاً لرضاه!. وقد ظنّ الكثيرون بعد الحرب العالمية الثانية أن هذه الأقطار العربية قد استقلت! لكن تبين للعرب أجمعين وللعالم كله أن الاستعمار قد اصطنع أنظمة حكم جديدة، أو تبنّى حكاماً محليين من بعض العائلات المتنفّذة، أو ساعد في إجراء انقلابات عسكرية، وفي كل الأحوال ربط مصير هذه الأنظمة السياسية بعجلة قيادته له، وزودها بكل عوامل البقاء كي تكون ذيلاً للاستعمار ومنفذاً لرغباته. أما عوامل البقاء هذه فتتمثل بشرطة لا لتخدم الشعب بل لتقمع حريته، وجيوش لا لتحمي الحدود وتوفر الأمن للمواطنين، بل لتحمي العروش والأنظمة السياسية العربية ولتحمي حدود الكيان الصهيوني وتوفر له الأمن وتحمي هذا الأمن رغبة أو رهبة. كما أن من عوامل بقاء هذه الأنظمة عوامل داخلية تضاف إلى التبعية للغرب، ممثلاً الآن في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا بصورة خاصة وبسائر الدول الغربية التي تدور في فلك الولايات المتحدة بصورة عامة! وأبرز هذه العوامل الداخلية الاستجابة القهرية للنظام الحاكم نتيجة للخوف والرهبة، فثقافة الخوف من الحاكم هي ثقافة تمتد إلى قرون طويلة من التاريخ العربي وليست جديدة أو طارئة، وإنما الجديد سطوة النظام السياسي العربي التي بلغت حدوداً غير مسبوقة من قبل!
من أجل ذلك كله فقد المواطن إرادته في مقاومة النظام السياسي في وطنه الذي تحول في أغلب الأقطار العربية، إن لم نقل كلها، إلى مزرعة للحاكم وعائلته وأعوانه، وتحول المواطنون إلى أجراء تتراوح أجورهم بين ما يشبه السخرة وبين أدنى متطلبات العيش، بينما تعيش فئة الحاكم وأعوانه على السلب والنهب والسرقة لأن النظام السياسي هو الأقوى في مثل هذه المعادلة بين الحاكم والمواطن! وهكذا فقد المواطن العربي الكرامة الشخصية والوطنية ومصادر الرزق لحياة كريمة، وانتشرت في المجتمعات العربية قيم الفساد والرشوة وسلب المال العام والنفاق للمسئول مهما صغرت رتبته وخصوصاً إن كان من العسكر، وضاعت الحقوق لعدم وجود القانون الذي يساوي بين المواطنين، والكثير الكثير من مظاهر يعرفها العربي الذي يتوق إلى الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. ويبدو طغيان السلطات العربية في المفارقة بين مقاومة الاحتلال كما كان في كل الثورات ضد الفرنسيين والإنجليز والطليان والصهاينة في الجزائر وسوريا والمغرب ومصر وفلسطين، وكما هو الآن في العراق، إذ بذلت الشعوب عدداً كبيراً من الشهداء في مقاومة الاحتلال لكن عدداً قليلاً هم من استشهدوا في مقاومة الظلم الداخلي الواقع من الحكام على الشعوب، ولهذه الظاهرة أسبابها الكثيرة التي لا مجال للخوض فيها في هذه المقالة.
وعلى المستوى السياسي فقد العرب إرادتهم، فبعد الثورات التي عصفت بالعالم العربي في الخمسينيات ضد الاحتلال الأجنبي، قبضت أنظمة الحكم على ما يسمى الأمن في الوطن العربي وأخذت تحسب على المواطن أنفاسه وتحاسبه عليها، ذلك أن العرب ونظراً لعوامل وأحداث كثيرة فقدوا إرادتهم السياسية بالمطلق، ولم نكن نستبعد أن تأتي وزيرة خارجية أميركا لتجتمع مع وزراء الداخلية العرب ورؤساء أجهزة المخابرات وبدون أي حرج كما كان في الماضي، ولم يرتفع العلم الإسرائيلي في سماء القاهرة وعمان وغيرها من العواصم العربية إلا حصيلة لهذا الواقع المتردي، وما أوسلو ونتائجها المدمرة على الشعب الفلسطيني إلا حلقة من حلقات هذا الترديّ.
هذه هي الخطوط العريضة لأسباب تمرد الكيان الصهيوني واستقوائه وعنجهيته على خدّامي السياسة الأميركية، وبالتالي على خدامي المشروع الصهيوني ودولته التي طغت على الأنظمة السياسية العربية كطغيان الساسة العرب على شعوبهم.
والسؤال الآن: أين الثورة الشعبية في مصر من ذلك كله؟
لقد قامت في مصر منذ القرن الماضي ثورتان قبل الثورة الحالية، كانت الأولى عام 1919 ضد الاحتلال البريطاني وسياسته في مصر والمنطقة، وقد قاد الثورة سعد زغلول الذي نفي مرتين من مصر، ولم تحقق الثورة الكثير لكنها بقيت مختزنة في التاريخ المصري لاستنفار تجربتها والبناء عليها، وهذا ما فعلته الثورة المصرية عام 1952 بقيادة الضباط الأحرار في الجيش المصري وعلى رأسهم جمال عبدالناصر. وقد تكاتفت قوى الثورة المضادة الخارجية والداخلية على تصفية الثورة ومنجزاتها بعد وفاة عبدالناصر، وقد جاء السادات ليعبر التعبير المطلوب غربياً وصهيونياً عن هزيمة مصر وبالتالي هزيمة الأمة العربية كلها أمام الولايات المتحدة وكلب حراستها المدلل: الكيان الصهيوني في فلسطين. وجاء الرئيس حسني مبارك ونظامه السياسي لا ليحافظ على إرث الهزيمة فقط، وإنما أيضاً، ليقود مصر نحو تصفية كل ما هو إيجابي، وفي كل ما يمكن أن يتصوره العقل في تفاصيل الحياة: السياسية والاجتماعية والاقتصادية على رحابة كل منها.
وفي السياسة الخارجية قاد مبارك مصر العروبة إلى محاربة العروبة وتطلعاتها، فقد وقف دوماً إلى جانب أميركا والغرب كله والكيان الصهيوني، وكل القوى المعادية للتحرر، وليس سراَ أنه كان يمارس الضغط على القيادة الفلسطينية بدلاً من الوقوف في وجه الاحتلال الإسرائيلي، وساهم بفعالية في حصار غزة جنباً إلى جنب مع الكيان الصهيوني في هذا الحصار. وليست مواقفه في كل القضايا في العالم العربي من السودان إلى العراق ولبنان وفلسطين إلا نماذج من سياسة الهزيمة المطلقة على الساحة العربية والتبعية المطلقة للغرب وعلى الأخص للولايات المتحدة التي تعيث في العالم العربي كل أشكال الفساد والهزيمة. ولا أعتقد أن عربياً مهما كان اتجاهه ولونه السياسي كان يستمتع بتصريحات ومواقف ممثله في السياسة الخارجية وأعني أحمد أبو الغيط.
هذه الصور لنظام حسني مبارك، جعلت الشعب المصري بكل طوائفه وفئاته المهنية والطبقية والدينية تقف في وجه الطغيان، فما أن حطّم التونسيون الخوف في نفوسهم، وأعادوا اكتشاف القوة الهائلة الكامنة التي يملكونها حتى ثار المصريون هذه الثورة العملاقة التي ستقتلع نظام حسني مبارك، وعندها ستعود مصر إلى أن تتبوأ موقعها القيادي في العالم العربي والإسلامي، فقوة مصر هي قوة العرب وقوة المسلمين وقوة أحرار العالم في كل مكان. لهذا يخشى الكيان الصهيوني على نفسه من الثورة العربية التي ستمتد إلى كل الأنظمة الهزيلة التي يقودها نظام حسني مبارك، وستجد "إسرائيل نفسها" مرة أخرى في بقعة جغرافية محاصرة لا بالكراهية فقط، وإنما بإرادة شعوب لا يمكن أن تتحرر سياسياً واقتصادياً واجتماعيا مع وجود هذا الكيان الغاصب، ويتطلب ذلك منها أن تحرر فلسطين من هذا الكيان، لا من أجل فلسطين فقط، وإنما كي تحمي ثوراتها وثرواتها ونهضتها التي يحلم بها العرب من المحيط إلى الخليج... ولا أستغرب أمام هذه الحقائق أن "أمنون راز" أستاذ التاريخ في جامعة بن غوريون يقول: "إن ما يحدث في العالم العربي هو حدث تاريخي بكل المقاييس، وإننا نشهد نهاية عهد الكولونياليّة في هذه المنطقة". ويقول بالنسبة لتأثيرها على إسرائيل: "إن إسرائيل ترتبط وجودياً ببنية النظام العربي القديم، وتغيير هذه البنية سيكون له آثار خطيرة، بمفهومها، ولذلك فإن الدوائر الإسرائيلية ترقب ما يحدث في مصر كونه يمس مستقبل سياساتها وحتى وجودها في المنطقة". والآن ألا يمكن أن نستنتج أن ثورة مصر هي بداية النهاية للكيان الصهيوني وذلك بعد أن تقتلع الثورة في مصر هذا النظام من جذوره، وأن تتمكن من بناء نظام سياسي يحقق طموحات شهداء الثورة الذين قضوا من أجلها، وطموحات هذا الشعب المصري العظيم الذي حطّم القيود ورفع رأس العرب والمسلمين والأحرار في العالم إلى عنان السماء، وفتح باب الأمل واسعاً على الصفحات المشرقة في التاريخ العربي حينما صدّ العرب والمسلمون غزوات التتار والصليبيين وأحفادهم من المستعمرين الجدد...!
تحيا مصر، ويحيا شعب مصر، وتحيا ثورته العظيمة!
http://nabeelalkam.com