العولمة والثقافة

ينطلق مؤلف الكتاب *د. جون توميلسون من أن العلاقة بين الثقافة والعولمة ذات أهمية استراتيجية،لان الثقافة هي (المفتاح المفاهيمي الذي يقك مغاليق القوة الدينامية الداخلية للعولمة)، في الوقت ذاته الذي تعد فيه العولمة شريان الثقافة الحديثة. إذن هذا الكتاب تنبع ضرورة قراءته من عدم اقتصار مناقشته للعولمة ضمن تخصصات علمية محددة،بل انه يذهب بعيدا في الربط بين العولمة والدراسات التي تدور حول الحداثة الثقافية والاجتماعية،بتقصي تفاصيل تجاربنا الحياتية وتحليلها واستنتاج الدروس منها عبر الزمان والمكان.
يقر المؤلف في الفصل الأول (العولمة والثقافة) أن العولمة والثقافة مفهومان رجراجان ،كلاهما يتسع لعديد التوصيفات والتعريفات ، إذن مهمة المؤلف كي تكون ناجحة عليه أن يحدد مفهوم وتحولات العولمة اجتماعيا ضمن السجل الثقافي. ان العولمة ببساطة :تنمية أواصر الترابط العالمي ،وفي مفهوم اعقد اصطلاحا يطلق على العولمة (المرتبطية المعقدة):أي تلك (الشبكة سريعة التطور ومتزايدة الكثافة من الترابطات والعلاقات المتبادلة التي تميز الحياة الاجتماعية الحديثة).
العولمة ثقافيا واجتماعيا وانثروبولوجيا تعادلها صياغات لغوية عديدة مثل الشبكات،الترابطات والتدفق. اذ ان مفهوم العولمة على قدر كبير من الخصوبة والتحول(من حيث قدرته على توليد التخمينات،والفرضيات والصور والمجازات الاجتماعية التي تصل إلى ابعد بكثير من الحقائق الاجتماعية المجردة). ويبقى الغالب على مناقشات العولمة اندراجها في سجل ثقافي عريض ،ماسر ذلك ،أو على حد تساؤل المؤلف توميلسون(كيف بالتحديد علينا إن نفكر في الثقافة كمفهوم وككيان متعلق بالعولمة؟)
وإذا كان الجواب الشائع إن الثقافة احد أبعاد العولمة، بما يعني إن العولمة متعددة الأبعاد يرى المؤلف إن توصيف التعدد ظاهريا يسير ومقبول ، ولكن في التحليل الثقافي يغدو هذا التوصيف غير دقيق ،بأخذه مثلا ،قضية طبقة الأوزون،يرى المطلع عليها جيدا انها لم تقتصر على كونها قضية بيئية، بل ربطت ب (الخطابات الاقتصادية ،البيئية، الأخلاقية، العلمية، القانونية،القانونية،السياسية،وبين بعضها البعض).
يطرح الكاتب أيضا أن هناك انحرافا عن الفكرة الرئيسة للعولمة ،وهي إنها تتسم بالاحدية ،وتعني الإحساس بان العالم في ظل العولمة أصبح مكانا وزمانا اجتماعيا وثقافيا واحدا ،مثل الطريقة الي تتشابك فيها الشؤون الاقتصادية للدول المختلفة مع الاقتصاد الرأسمالي،مع ذلك يؤمن المؤلف بوجود صعوبات أمام الاكتساح العولمي
بقوله(لن يتجاسر سوى قليلين على الادعاء بان المرتبطية المعقدة للعولمة تتوسع حاليا باية طريقة يصعب فهمها لتشمل كل شخص منفرد او مكان على سطح كوكبنا الأرضي )، اذن نحن ازاء عولمة متعددة الابعاد لكنها ليست منعزلةعن بعضها، فاية قضية عولمية ،لها تفريعات متداخلة في المجالات جميعها، والمؤلف يشدد على ان هصر رؤوس وتفريعات اية قضية في وعاء التحليل الثقافي ، له الأولويةلان (مفهوم الثقافة محيط للغاية) ، ورغم ذلك لايقبل المؤلف التسليم ببديهيات من قبيل(أليس كل شيء ثقافيا ؟ )و وصف الثقافة على انها نمط كلي للحياة ،لان ذلك باعتقاد كليفورد جيرتز يشبه رمي كل شيء (في اليخنة المفاهيمية الذي يمثلها ذلك الكل المعقد للوجود الإنساني).
وفي الفصل الثاني (الحداثة العالمية)،يرى مؤلف الكتاب ان الحداثة تعد من المقولات (التي نفهم من خلالها العالم الثقافي والاجتماعي)،ومناقشة العولمة،تحتم الخوض في إشكالات الحداثة العالمية،ومن ضمن الأفكار التي طرحها المؤلف بشان العلاقة بين الحداثة والعولمة،ان العولمة لاتقع ببساطة ضمن الفترة التاريخية للحداثة ، بل إن العولمة برمتها تعد نتيجة للحداثة، يلجأ المؤلف في البداية إلى تعاريف إجرائية للحداثة،وتحقيباتها وانقطاعاتها التاريخية في مسيرة الوجود الإنساني،، فقد ربطت الحداثة ب(الظهور التاريخي للمؤسسات الحديثة ، فبالتوجه نحو التصنيع ، وترسيخ النظم المتطورة للدول القومية، والطفرات الكبيرة في تقنيات وسائل الإعلام، يمكن أن تتكون شبكة من(العلاقات الاجتماعية المميزة للعولمة)،لكن المؤلف توميلسون يطرح اسئلة معمقة تشكل الالتباس الاساسي للحداثة،منبعها التساؤل عن اي تقييم نسبي، يسم المؤسسات الاجتماعية بالحديثة،وهو بلا شك تقييم مرتبط بأفكار الجدة والمعاصرة،وإزاء ذلك يسم المؤلف العلاقة بين الحداثة والعولمة بالغامضة،(ليس من المفاجئ أن يكون الحديث النظري الذي يحيط بالحداثة معقدا ومشوشا في كثير من الاحيان ،وهذا يضاف بالطبع الى الصعوبات التي تكتنف تقييم العلاقة بين العولمة والحداثة).في استعراض تاريخي،يجيب المؤلف متى برزت ملامح تشكيل مؤسسات الحداثة ، ويخلص الى أن لها (تواريخها المختلفة الخاصة ،وشروط ظهورها،وشروطها المسبقة، بما معناه، يصح القول، إن المجتمعات الحديثة لم تبدأ من اللحظة ذاتها،أو أنها تطورت على وتيرة واحدة ضمن زمن تاريخي واحد، ويدرج المؤلف تنصيصا ل ( زيغمونت يومان)يلخص الإشكالية التاريخية للحداثة التي تلقي بظلالها على علاقتها بالعولمة (تحديد عمر الحداثة يمثل سؤالا عويصا ،فليس هناك اتفاق على التأريخ ،وليس هناك إجماع على ما سيؤرخ لها، .وما أن تبدأ جهود التاريخ بصورة جدية ، حتى يبدأ الموضوع نفسه بالاختفاء .
ومن الفصول المهمة في الكتاب ،فصل (الثقافة العالمية:الأحلام والكوابيس والشكوكية)ويجادل المؤلف فيه امكانية انتشار ثقافة عالمية(ظهور ثقافة واحدة منفردة تشمل كل من هم على وجه الأرض وتحل محل تنوع الأنظمة الثقافية الذي ازدهر حتى الآن)،ويناقش أيضا تخمينات تتفرع الى أحلام وكوابيس بشأن هذه الثقافة العالمية الواحدة،ويذكر المؤلف آراء مهتمين بشؤون العولمة، حيال امكانية ظهورها في المستقبل القريب، فضلا عن اقتران تساؤلات المؤلف وهؤلاء بشان اقتران الثقافة العالمية الموعودة أو الافتراضية (بالآمال والتطلعات نحو عالم أفضل ،يمكن فيه توحيد كل صور الوجود البشري،وتحسينها ،وإحلال السلام والسكينة عليها).
وإذا كنا ركزنا في هذا العرض الموجز علىثالوث الدراسات المستفيضة في الكتاب (العولمة،الثقافة ،الحداثة)
فن فصلي الكتاب المتبقيين (الرابع والخامس) يدرس المؤلف فيهما جوانب مهمة أخرى،مثلا ،في ظل العولمة الثقافية ،يرصد د.توميلسون رؤية نمط عام من تفكك الروابط بين التجربة الثقافية والمكان المحلي، فيناقش الكتاب(الطبيعة غير المستوية لهذه التجربة)من ناحية علاقتها بالمجتمعات المختلفة، أو ما يسمى ب(تهجين الثقافات)، فضلا عن ذلك يرصد الكتاب الدور الخطير الذي تؤديه وسائل الاتصالات والاعلام الحديثة في عملية اللاتوطين،التي تتحكم بها السياسات الثقافية الاستعمارية الحديثة او ما يطلق عليها الآن (الكوزموبوليتانية).

*العولمة والثقافة-تجربتنا الاجتماعية عبر الزمان والمكان/تأليف:د .جون توميلسون/تر:د.ايهاب عبد الرحيم محمد/سلسلة عالم المعرفة-المجلس الوطني للثقافة والفنون والاداب /الكويت