علاء هاشم الموسوي
مقاربات ابستمولوجية للخطاب الديني.
المتأمل في حركة الخطاب الديني يجد أن ثمة فارقا بين طبيعته في هذين العقدين الأخيرين وطبيعته قبل ذلك، فقد كان الخطاب يُقرأ في تلك العقود بأنه خطاب منفصل عن خطابات أخرى تحمل ايديولوجيا مغايرة من الناحية الفكرية، بينما يمكن القول الآن اننا نجد تحولا في طبيعة الخطاب الديني في العقد الأخير، فهو أقرب إلى كونه فاعلا ومؤسسا، وهذه الخاصية باتت مقروءة لدى المهتمين والمتابعين للأدبيات الإسلامية الكثيرة التي شكلت ظاهرة في الساحة الثقافية، وهذا يدلل على كون مشروع الخطاب الديني بات مطروحا بقوة متمثلا بكثرة النشرات أو الدوريات الثقافية والفكرية. ونحن هنا لسنا بصدد الحديث عن هذه الأدبيات أو الخوض في جدلية المفهوم من هذا المصطلح، ومدى قدرة كل أدبية على عكس المفاهيم الصحيحة، فكل منا يحمل تصورا – بسيطا كان أو معقدا – قد يتفق أو يختلف مع الآخر في تحديده، وهذا التصور يخضع لنوعية وطبيعة المعرفة التي يستقيها كل واحد منا، ثم ان محاولة استقراء أو استقصاء التحديد الخاص لهذا المصطلح قد يحرمنا من الهدف الأساسي لما نحن بصدد البحث عنه في هذه الدراسة المخصصة لمعالجة أمور مهمة تحتاج إلى قراءة دقيقة متأنية حتى يستطيع الباحث أن يخرج بنتيجة مفيدة تكون في متناول القراء والمتابعين.
يحتل الخطاب الديني في مجتمعاتنا الإسلامية موقعية خطيرة من التأثير، بحيث لا يضاهيه فيها أي خطاب آخر، فهو الذي يصوغ العقل الجمعي للأمة، ويوجه السلوك العام لأبنائها، نظرا لما يمثله هذا الخطاب في نظرها من تعبير عن أوامر الدين وأحكامه، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فالخطاب الديني أصبح مرآة لصورتنا أمام الأمم والحضارات الأخرى، فمن خلاله تشكلت الانطباعات والتقويمات عن أمتنا وديننا وثقافتنا، وحين نجد ظاهرة عجز في العقل الجمعي للأمة وظاهرة خلل عام في السلوك العام لأبنائها، فذلك يدعونا إلى مراجعة خطابنا الديني، فهو اما أن يكون مسؤولا عن حصول هذا الواقع السيئ أو مهادنا له مكرسا لوجوده. ويتمثل الخطاب الديني في فتاوى الفقهاء، وكتابات العلماء، وأحاديث الخطباء، وآراء ومواقف القيادات والمؤسسات الدينية، وهنا لا قداسة ولا عصمة، فالاجتهاد قد يصيب وقد يخطئ، والمجتهد إنما يعبر عن مقدار فهمه وادراكه، وقد يتأثر بمختلف العوامل النفسية والإجتماعية والسياسية التي تنعكس على آرائه وتصوراته، كما أن قسما كبيرا من الخطاب الديني المعاصر لا يصدر عن فقهاء مجتهدين، بل عن وعاظ وخطباء محترفين وجهات تمتهن التصدي للشأن الديني بغض النظر عن الكفاءة والنزاهة.
ومن أبرز مظاهر العجز والخلل في خطابنا الديني، تدني موقعية الانسان في مجتمعاتنا، وانحطاط مستوى الاهتمام بقيمه وحقوقه، وحماية كرامته، حتى أصبحت أمتنا تحتل مكانة الصدارة في تقارير انتهاكات حقوق الانسان على مستوى العالم، ليس من جهة السلطات السياسية فحسب، وإنما على الصعيد الاجتماعي العام أيضا، فهناك إرهاب فكري يصادر حرية التعبير عن الرأي وتمييز ضد المرأة وقسوة على الأبناء تسحق شخصياتهم، ونظرة دونية إلى الآخر المختلف ضمن أي دائرة من دوائر الاختلاف، ومن هنا انبثقت بعض التوجهات الارهابية، التي تمارس العنف وازهاق النفوس وقطع الرؤوس، واختطاف الأبرياء واستهداف المدنيين، كل ذلك باسم الدين وتحت شعار الاسلام وبعنوان الدفاع عن مقدسات الأمة، ان هذه الانتهاكات الصارخة لحقوق الانسان في المجتمعات الاسلامية وهذا التجاهل والتنكر لكرامة الانسان وقيمته حينما يحدث بمقولات وتبريرات تنسب الى الدين فمن الطبيعي أن يكون الخطاب الديني في موضع المساءلة والاتهام، رغم انه لا يساورنا شك في نزاهة الدين وبراءته من هذا الذي يحدث بإسمه وينسب اليه، فالقراءة الصحيحة للنصوص الدينية تكشف عن اهتمام عميق بانسانية الانسان واحترام شديد لحقوقه وكرامته، لا مثيل له في أي مبدأ أو حضارة، وبالتالي فانه يمكننا محاكمة الخطاب الديني المعاصر وتقويمه على ضوء النصوص الدينية لمعرفة مدى الخلل والقصور الذي يعانيه وفق منظور يتوافق مع أصول الرسالات الالهية ومقاصد التشريع وينسجم مع القيم الانسانية ومنطق العقل، كما أن الدعوة الى مراجعة الخطاب الديني تستند إلى مسوغات شرعية وتستجيب لضرورات واقعية، فمن الناحية الشرعية تهدف هذه المراجعة الى تأكيد أن الاسلام دين صالح لكل زمان ومكان، فكيف نتصور ذلك إذا بقي جامدا على صورة واحدة ولم يراعِ اختلاف الأزمان وتغير الظروف وتبدل الأحوال؟! ومن الناحية الواقعية فيبدو واضحا أن خطابنا الديني المعاصر أخفق في اشباع حاجات المجتمع والاستجابة لتحديات العصر، وتسبب - في بعض مناهجه وتجلياته - في احداث مشكلات خطيرة ليس ما شهدناه من أحداث عنف وارهاب في الآونة الأخيرة سوى وجه واحد من وجوهها
ونحن اليوم أمام كل التحديات نحتاج إلى قراءة مفاهيمية جديدة بعيدة عن الاتكاء على الآخر وبعيدا عن التعاطي مع النصوص من خلال قراءة مغلوطة، وبعيدا عن التطويع الخاص للنصوص الشرعية، ولابد من التمسك بالثوابت الدينية والبحث عن الاستقلال الثقافي في عملية خلق جيل جديد يتسلح بالثقافة الاسلامية مؤكدين على الوعي الجماعي للأمة، والتمسك بالهوية التي تمدنا بالاطمئنان والشعور بالقرب من المفاهيم الأصيلة وعدم الخوف على ثقافتنا من التعويم تحت ظلال المصطلحات والشعارات البراقة والذوبان في دائرة الآخر المختلف، لأن أمتنا اليوم في وضع حضاري متردٍ، فالسواد الأعظم من الناس يستهلك الماضي ويعيش ذهنيا في الماضي وسبب هذه الماضوية خلوه من الابداع والاختراع وعجزه عن تقديم الجديد فيبدو وكأنه لم يتعلم شيئا مما أضافه الزمن، لذلك ليس غريبا أن نرى العربي يعيش الآن زمنا راكدا ولحظة لا تاريخية، لأنه لم يتمكن بعد من عبور نقطة الانقلاب المتدنية على مساره الحضاري التاريخي، لذلك تحول الانسان العربي منذ قرون خلت إلى كائن مستهلك للثقافة، ولأن ثقافته السالفة حوت قدرا هائلا من الزخم المعنوي والقيمي فإنه بقي متمسكا بها لا يفتأ يلوكها ويجترها على مر القرون، رغم ما دخل عليه من ثقافات وأفكار وفلسفات جديدة أنتجتها حضارات الأمم التي تلت بعد انتقال مشعل الحضارة إلى الغرب.
* كاتب عراقي