المجتمع مابعد الحداثي سوسيولوجيا السوق والموضة
رضوان جودت
يرغب الكثيرون في قراءة الفكر ما بعد الحداثي كانعكاس لما يحصل من تحولات اجتماعية واقتصادية ونفسية في المجتمعات الغربية، وهم بذلك يعودون بظاهرة ما بعد الحداثين الى نقطتين رئيسيتين أولاهما التأكيد على خصوصية الظاهرة بحكم نشأتها في المجتمعات الغربية وعدم خضوع المجتمعات الأخرى لتحولات من نوع مماثل مما يجنبها أو يبعدها عن الجدل الدائر حول ما بعد الحداثة، أما النقطة الاخرى فهي الاصرار على الربط الميكانيكي بين الفكر ما بعد الحداثي وتحولات المجتمع الغربي، بحيث تصبح كل أفكار ما بعد الحداثيين إفرازا طبيعيا لما عاشه الغرب من تناقض في الايديولوجيا الحداثية لا سيما في علاقات المركز بالهامش وما نشأ عنها من علاقات الاستغلال، وفقدان للمساواة وسيطرة للنخبة وفرض هيمنة التغريب على مجتمعات العالم الثالث، لذلك وكرد فعل على ذلك ستنشأ حركات ذات اصول اجتماعية تنادي بنهاية الايديولوجيات والمعتقدات وتطالبها بالخروج عن كل قياس معياري وترسخ الانتماء الفردي وتشيع الثقافة السلعية والاستهلاكية وترفض مقولات سطوة العقل وتتحدث بدلا عن ذلك عن لا عقلانية العقل، إنها باختصار كما وصفها أحد الباحثين تبحث عن السلطة في كل شيء، من اجل إدانة اي شيء، وهي وفقا لذلك لا تتحدث عن المجتمع وتحولاته بقدر ما تطنب في الكلام عن أرخبيل السلطات التي يخضع لها هذا المجتمع.
ما تطنب في الكلام عن أرخبيل السلطات التي يخضع لها هذا المجتمع.
وقد جرى توصيف هذا المجتمع بالعديد من المصطلحات التي تصف هذا المجتمع انطلاقا من منظورها السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي فأحيانا يطلق عليه <<المجتمع ما بعد الصناعي>> كما أطلق عليه عالم الاجتماع الفرنسي الشهير آلان تورين وأحيانا اخرى <<المجتمع المعلوماتي>> أو <<المجتمع الاستهلاكي>> بحسب تعبير فردريك جيمسون. إن كل هذه التوصيفات تقوم على محاولة إنشاء صلة رمزية بين ثقافة ما بعد الحداثة وظرف اجتماعي معين، فهي تربط بين ولادة <<مجتمع ما بعد الصناعة>> وبين <<ثقافة ما بعد الحداثة>> مثلا ويبدو ان الاجتماعي الاميركي دانيال بل هو الأبرز في دراسة هذه العلاقة الاتصالية، حيث يميز بوضوح بين التحولات الطارئة على الميدان الاقتصادي، وتلك التي جدت على مجمل الحقل الاجتماعي، حيث لب الاقتصاد ما بعد الصناعي هو المعرفة، بحيث ان البنية الاجتماعية المهنية الجديدة إنما تنتظم حول الكفاءات الذهنية، وصفة <<الما بعد>> ترتبط هنا بالتداعيات الناتجة عن الشخصنة داخل كل قطاعات المجتمع، وهو لذلك يدعو الى النظر في طبيعة المجتمع ما بعد الصناعي انطلاقا من تفكك مبادئ الحركة والعمل فيه، اكثر من النظر في الوحدة والتماسك المفترضين لنظامه الاجتماعي.
لذلك فالنزاعات الاجتماعية الجديدة والمفترضة لا تقع خارج نظام الانتاج، بل في مركزه، وتمتد الى ميادين جديدة من الحياة الاجتماعية، وما ذلك إلا لأن الاعلام أو التربية أو الاستهلاك ترتبط ارتباطا أوثق مما في السابق بميدان الانتاج، فعلينا أن نفصل النزاعات الاجتماعية عن نظام الحكم الاقتصادي والسياسي، وهو ما يجبرنا على التخلي عن مفاهيمنا التقليدية في تحليل المجتمعات من مثل مفهوم الطبقة الاجتماعية والصراع الطبقي من اجل الحديث عن التوترات الوفيرة والطبيعية التي لا نعني حذفها، بل تدبيرها في الحدود التي يمكن فيها التفاوض عليها.
في حين ان فريدريك جيمسون يشير الى العلاقة الوثيقة بين ما بعد الحداثة والمرحلة الحالية من الرأسمالية متعددة الجنسية، إذ ان ما بعد الحداثة الجديدة تعبر عن الحقيقة المركبة للنظام الاجتماعي الجديد للرأسمالية في مرحلتها المتقدمة هذه فثقافة ما بعد الحداثة تناسب الانماط الجديدة: الاستهلاك وسرعة استعمال الموضة الدقيق للوقت، أو ما يسميه <<تذرية>> الوقت، وهو بالتالي يصل الى نتيجة خلاصتها ان ما بعد الحداثة ليست <<موضة>> للمرحلة الرأسمالية الحالية، وإنما هي ثقافتها بالذات.
نرسيس
إن هذا المدخل الثقافي في قراءة ظاهرة ما بعد الحداثة قد سيطر على الكثير من المثقفين والمحللين الاجتماعيين ولا شك ان ذلك يشكل المظهر الأكثر بروزا في ظاهرة ما بعد الحداثة لا سيما في حقول العمارة والفن والسينما والأدب وغيرها، لذلك فيقرأ سكوت ليش ظاهرة ما بعد الحداثة بوصفها حدثا ثقافيا وتمتلك ثلاث مواصفات عامة، فهي أولا نتاج سيرورة التمايزات الثقافية وهي ثانيا خلق لنظام جديد من الرموز المجتمعية المتصفة بالرؤيوية أكثر من اتصافها بالملموسية وثالثا هي ظاهرة تعكس تغيرات واضحة وجلية في التصنيف والتراتب الاجتماعيين.
يضاف الى ذلك ان هناك بعضا من علماء الاجتماع الذي يقرأون ظاهرة ما بعد الحداثة وفقا لتجربتها المعيوشة، إذ يفترضون ان المظاهر الاجتماعية المتجلية في السينما والأدب والاجتماع والاستهلاك، تشكل كلها رؤى متنوعة ومتغايرة لحقيقة اجتماعية واحدة، وهم لذلك يفترضون وجود مكان مركزي يضفي المعنى على المواقع والأجزاء المترابطة فيما بينها، ووفقا لذلك فهم يؤكدون غياب التفسير التوحيدي للعام الاجتماعي مقابل التبعثر والفوضى، وحلول الفرديات مكان الكليات، وظهور ما يسمى بالنرجسية الفردية، حيث لا يعود الفاعل الاجتماعي قادرا على التأثير في محيطه الاجتماعي، فيلجأ الى تمركزه على ذاته، فيظهر العجز عند الناس وتكثر ضحايا الفوضى في صفوفهم. ولذلك لا بد عند دراسة المجتمع ما بعد الحداثي من التركيز على استقلالية النظم الفرعية عن بعضها وعدم تدامجها في كل جامع أو كل تراتبي واحد، وهذا الانفصال أو التناقض صفة هذا المجتمع الذي لا يوجد فيه نظام مرجعي مشترك مما يدفع كل نظام جزئي الى ان يتمحور (كما الأفراد) حول أوالية اشتغاله الذاتية، ولا يعود يسرى بينهم من اتصال، سوى الاتصال المعلوماتي (الإعلام).
ومصداق هذه الأفكار واقعيا وعمليا هو ظهور فكرة <<السوق>> كمبدأ منفصل عن النظام الذي يحكم المجتمع، وكمختزل لتعقيداته، وكقناة للتواصل الاعلامي بين أجزائه، فالسوق هنا هو المعبر عن منطق التاريخ الاجتماعي وتطوره، وهو الذي يكشف عن طبيعة النظام الاجتماعي ويعبر عن الخصوصيات عن طريق تحصين التمايزات والاختلافات بين الأجزاء.
ففكرة السوق، بما هي تجسيد معيوش للتاريخ الانساني، تشهد حاليا انتصارا لا سابق له في الاقتصاد وفي السياسة وفي الاجتماع فقد أصبحت حقيقة شبه دينية، إذ يجب ان تحصل في المجتمع أشياء وأحداث غير قابلة للسيطرة والانتظام، فكل شيء يتحرك بفوضى، هذا هو جوهر ظاهرة ما بعد الحداثة اجتماعيا، وقد استغرق جورج بالاندييه في وصف الفوضى باعتبارها سمة ابداعية، أو حركة تزيل قديما وتخلق جديدا، إنها تمثل المنحى الايجابي للتغيير وتقود خطابا يتيح قبول غير الأكيد، كنمط علاقة مع العالم.
وإذا كانت فكرة <<السوق>> مؤشر الضبط في المجتمع ما بعد الحداثي الذي تحكمه الفوضى، فإن الموضة بوصفها دلالة حضور السوق ووجوده تصبح هي النظام النمطي في المجتمعات ما بعد الحداثية، وتأخذ شكلا جوانيا ونرجسيا، وهذا ما يؤسس لظهور الفردية كقوة مجهولة خارجة عن كل تحكم، وهي لذلك قوة تدميرية وتخريبية، فعندما يعيش كل فرد على انه نظير ذاته، يصبح المجتمع عندها منبع القداسة ويجب حماية الذات بوصفها نقطة اختزال المجتمع، ان اسطورة نرسيس هي عنوان اللااجتماعية، فما دام الفرد حبيس صورته المرآتية، فإنه ينسحب من كل علاقة ويموت من جراء ذلك.
الفن ما بعد الحداثي
إن هذه الرؤى تختصر صيغة الفن ما بعد الحداثي الذي يفترض به ان يعكس صورة مجتمعه بطريقة أو بأخرى، فنلحظ ان الفن دخل في مرحلة النفي الأبدي والمستمر، فما دام الجديد لا يلبث ان يصبح قديما وأن النفي ايضا فقد قدرته على الخلق، لذلك فأصبح الفن يرتاد الحقول المختلفة من سينما وأدب وتشكيل بكثير من الفجاجة، فما من شيء إلا ويحتضر، لكن ثمة شيئا ما بصدد الاختمار، لذلك فما بعد الحداثة الفنية تنادي وتطالب بمحو الفوارق بين الحقول الفنية المختلفة، إذ تريد ان تكون اساسا للتجديد وللسعي الأبدي الى الفرادة والاستبطان المنهجي للاحتمالات، إنها تتطلع الى تفكيك أوصال الصنم الرومنطيقي للمبدع الفرد، المنغلق المتمحور على ذاته، حتى يتمكن الفنان التقني ان يلهو بإعادة تجميع أشلائه وفق هواه، إن ذلك يوجد في صيغته القصوى القائمة على رفض الحداثة والتي تقول <<نعم لكل شيء>>.
تتقدم إذا حركة ما بعد الحداثة نافية الحداثة ومعلنة رفضها لكل أسسها وأصولها فالحداثة كانت امبريالية وذات نزعة ذكورية متمركزة في حين ان ما بعد الحداثة ترفع راية التحرر، انها حركة متشظية يمكن ان تتفتح فيها المتعددة ذلك <<أننا كنا قد بحثنا الجانب الأدبي في الفكر ما بعد الحداثي>> او ما يطلق عليه ادب الصمت في مكان آخر، فإننا سنركز على استخلاص الملامح أو الميزات العامة التي تشترك فيها ثقافة ما بعد الحداثة في حقولها المتعددة.
إن أول ما يمكن ملاحظته هو ردة الفعل النفسية الحادة تجاه الحداثة بحيث تسعى ثقافة ما بعد الحداثة الى ترسيخ وجودها عبر تحطيم أو نقض الثقافة الحداثية، فإذا كانت الحداثة أمعنت في تشويه وإدانة الثقافة الجماهيرية لأمور الثقافة حيث الثقافة العليا والثقافة الشعبية، ولكن نمنح الافضلية الى تعدد اشكال التعبير الثقافي، كما انها تلغي دور العقل، الذي ترى فيه انه ينزع عن العالم انسانيته قبل ان يدمره، وتتصدى الى العلم الوضعي الذي شكل أحد طموحات الحداثة، إذ هي لا تدخر جهدا في تحويل مشروع المعرفة الى مشروع رمزي، لغوي، استعاري، غير تنظيري اي باختصار الى مجرد عمل سردي.
إن المجتمع ما بعد الحداثي يبدو إذا أشبه بمجتمع الخدمة الذاتية، والاغراء فيه بمثابة مسار شامل، ينزع الى تنظيم الاستهلاك والمنظمات والاعلام والتربية والأخلاق، وهكذا جاءت علاقات الاغراء بديلا عن علاقات الانتاج، إنه يتجه نحو الحد من العلاقات السلطوية والزيادة في الخيارات الخاصة وفي منح الأولوية الى التعددية، والازدراء بالقيم الكبرى وبالغائيات التي تنظم العلاقات في الأسرة والعمل والجيش وغيرها، وتعم السلبية بوصفها القيمة الوحيدة التي يسعى الجميع لتحقيقها مما ينتهي بالمجتمع الى حالة من التذرر والقلق والتشاؤم.
ولكن هل يعني ذلك النظر الى المجتمع ما بعد الحداثي بكونه سيئا بالمطلق، إننا نغفل المنظورية النسبية التي يصر مفكرو ما بعد الحداثة على ترسيخها لدى النظر الى المجتمعات، فالقيم التقليدية التي حكمت المجتمعات وثبتت جذورها مع قيم الحداثة لا تأخذ مكانة فضلى على القيم التي تنقضها أو تلحقها، إذ إن المجتمع هو الذي يفرز قيمه الخاصة التي تعبر عن تحولاته وطموحاته مع ضرورة توخي الحذر في ربط العلاقة الميكانيكية وفق الاصول الماركسية بين الفكر والمجتمع، فالارتباط بينهما ليس اتصالا دائما بالضرورة كما أنه لا يعني قطيعة كاملة، فرواد ما بعد الحداثة يتشككون في الجديد لأنهم خبروه وهم بذلك لا يؤسسون لمجتمع جديد يبنون قيمه ويسعون الى تحقيقه، فدور المثقف الرسولي انتهى بالنسبة اليهم وجاء دور الثقافة الشعبية لتعبر عن مكبوتاتها ومخزوناتها فهي جزء من الثقافة المجتمعية لا تنفصل عنها لأنها نبتت منها، وفي النهاية تبقى كل نظرة مقارنة مرفوضة لدى ما بعد الحداثيين لأنها تحمل بين طياتها حكم القيمة الذي لا يقيمون له وزنا لأنه من رواسب عصر يطمحون الى التخلص منه.